Times of Egypt

جمال البنا.. النقابي والكاتب الإسلامي الذي قتلته مكتبته (1-6)

M.Adam
عمار علي حسن

عمار علي حسن..
ظلم جمال البنا نفسه، حين ترك الإعلام يختزله.. فيما أُطلقت عليها «الفتاوى الشاذة»، مع أن الرجل لم يكن يطرح نفسه في دور المفتي ولا الفقيه، بل يقف متردداً ومتشككاً.. حيال من يلقبونه بالمفكر الإسلامي. وكان يفضِّل دوماً أن يوصف بـ«الكاتب الإسلامي» – وهو توصيف قريب من حقيقته – إذ كان ينحو أسلوبه إلى السرد أحياناً، أو يعتمد على لغة بِنْت زمانها، تبتعد عن الألفاظ القديمة والمهجورة، والتعبيرات المعلبة.. التي تُستقى من الكتب القديمة في الفقه والتفسير وعلم الحديث وشرح العقيدة، والتي تسيطر على كثير من الكتابات الدينية الإسلامية.. التي ينتجها أكاديميون ودعاة ووعاظ وباحثون.
قلت له ذات يوم.. إن الإعلام يجري وراء الضجيج، ويرى بُغيته في الغرائب وشواذ الأمور، وما يصطدم بالسائد والمتاح، لاسيما مع اتساع اللون الأصفر في الأداء الصحفي والتليفزيوني، الذي زاد مع رائج يُطلق عليه «التريند»، وعليك أن تنأى بنفسك عن الفخاخ التي تُنصَب لك.. بحثاً عن التحبيذات والاستهجانات والتعليقات والمشاركات على فيسبوك أو تويتر، فهذا يختزل رؤيتك عند العموم ومتوسطي المعرفة.. في تلك الهوامش العابرة، ويهيل التراب على ما تقدمه من محاولات جسورة، في تجديد التصور الإسلامي، نتفق أو نختلف حول بعض تفاصيلها، لكنها جهد مشكور، يرمي حجراً في مياه راكدة، أو يفتح جرحاً أوشك على التقيح أو حدث له هذا بالفعل.
تنحنح يومها، ورد عليَّ بأنه «يقصد هذا، حتى يذيع اسمه في أعطاف المجتمع، فيلتفت الناس إليه بعد طول إهمال، ومن ثم يبحثون فيما بعد عن كتبه، ولمَّا يقرأونها سيدركون مقاصده، ويقفون على الأفكار التي يقدمها في تجديد الخطاب الإسلامي، ونقد حركات الإسلام السياسي، وضرورة غربلة الوارد بين أيدينا في كتب الأحاديث الشهيرة».
أشفقت يومها عليه.. من هذا الاتجاه المغلوط، وقلت له: يبدو أنك لا تعرف الإعلام جيداً وما يصنعه، وتتصور أن الناس يقرأون بالقدر نفسه.. الذي كانوا عليه في الماضي؛ أيام طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين وأمين الخولي. أغلب الناس الآن يكتفون بالتلفاز، ومواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت.. كوسائل لتحصيل المعرفة، والجيل الجديد يميل أكثر إلى الكتب المسموعة، وأنت لم تسجل أياً من كتبك، ولا أحد قام بهذا، فضلاً عن أنك تنشر مؤلفاتك في دارك الخاصة.. التي تسميها «دار الفكر الإسلامي»، ذات الطبعات الفقيرة المحدودة، والمغلولة يدها في التوزيع.
تاه قليلاً في كلامي، ثم قال: «سيكتشفني الناس بعد خمسين عاماً».
ولم أعرف لماذا حدد هذا التاريخ؟ لكنني أدركت فيما بعد أنها مقولة للشيخ عبدالمتعال الصعيدي، الذي خرج من عباءته أغلب مجددي الخطاب الإسلامي، واستفاد البنا نفسه من عطائه. فقد تحققت نبوءة الصعيدي بالفعل، إذ مات عام 1965 مهجوراً محسوراً.. بعد رفته من الأزهر، ورميه بالمروق والفسوق، وإثر اتهام ابنه بالمشاركة في جماعة خططت لقلب نظام الحكم، فلمَّا جاءت سنة 2015، وفي خضمِّ الصراع السياسي مع الجماعات والتنظيمات السياسية الإسلامية، طبعت مكتبة الأسرة خمسة كتب للصعيدي، وطُرحت في الشوارع عند باعة الجرائد، وصارت بالفعل بين أيدي الناس، وإن كان الرجل حين مات.. تحت أكثر من عشرة كتب، لم ترَ النور إلى الآن.
كثيراً ما كان يقول البنا لي «إن كثيراً من الذين يختلفون معه ويقدحون فيه ويهاجمونه علناً حين يسألهم الناس عن آرائهم فيما يقوله ويكتبه، يتصلون به سراً معتذرين، ويطلبون منه ألا يؤاخذهم فلديهم ما يخسرونه من المناصب والأموال، ويواجهون أصحاب أنياب طويلة لا يرحمون أحداً، سبق لهم أن طاردوا محمد عبده وعبدالمتعال الصعيدي»، والحبل على الجرَّار.
وعديداً ما كان يبتسم ويقول: «ما ينسبونه إليَّ لم أخترعه، فهو موجود في بطون كتب قديمة يحفظها بعض من ينتقدونني عن ظهر قلب، ويتلونها على أسماع الناس كما هي»، ثم يستعين بقول زكي نجيب محمود ليصفهم بـ«الحفظة المتعالمين».
وقال لي ذات يوم «إن الفقه – في حديثه عن مبطلات الصوم – تحدَّث عما يدخل جوف الصائم من طعام أو شراب، وتدخين السجائر ليس مما يدخل الجوف». يومها ابتسمت وقلت له: يا أستاذ، الصوم في جوهره قائم على مقاومة الشهوات، وأعرف أن التدخين بالنسبة للمدخنين.. شهوة لا يستهان بها، والاستسلام لها يجرح جوهر الصيام، فإن أخذنا الأمر من هذه الزاوية، يكون التدخين من مبطلات الصيام، من دون شك.
ابتسم يومها، وقال لي: «لست أول من قال هذا، وعلينا في تلك الحالة أن نعيد النظر فيما ورد في كتب الفقه القديم، وهذا ما أحاول أن أفعله».
وكنت أطلب منه على الدوام ألا ينزلق إلى فخ ينصبونه له، وبعد أن يقع فيه.. يهيلون التراب على كل ما كتب، فكان يجيب في ثقة: «من يرد أن يعرفني على حقيقتي فعليه أن يقرأ أكثر من مائة كتاب ألفتها، ونشرتها، وصارت الآن بين أيدي القراء».
كان يقرأ عن القصور والنساء والسيارات الفارهة.. التي يملكها تجار الدين، فيضحك ويتساءل: «أين زهد العلماء والتقاة؟» ثم يمعن في تساؤله عما إذا كان كل هذا من حصيلة وعظهم وكتبهم.. التي لا تحوي رأياً لهم، فهم مجرد ببغاوات تردد آراء الغابرين، دون أدنى اعتبار لملاءمتها لظروف عيشنا الآن، ومدى قدرتها على أن تخدم مجتمعنا الراهن، وتعينه على حل مشكلاته.
وتفكرت في سؤاله.. عما بينه وبين بعض منتجي الخطاب الدعوي الإٍسلامي.. من تفاوت طبقي رهيب، وبرقت فكرة في رأسي، وهي أن أقارن بين ثلاجته وثلاجة أي من منتقديه، فبينما تنعم ثلاجات هؤلاء بما لذ وطاب من الطعام والشراب، كان لا توجد في ثلاجة البنا سوى علبة.. تحوي قطعاً من الجبن الأبيض والزبادي، وأرغفة خبز، وماء وبقايا فول مدمس، وعلب من التونة تُعد على أصابع اليد. وسيقول قائل إن هذا طعام يلائم رجلاً في عمره، حتى لو كان يملك الأرض وما عليها. وهذه حقيقة، لكن البنا، حتى وهو قادر على ازدراد الطعام الدسم بنهم، كان يكتفي منه بالقليل.. حسبما أخبرني، تارة لفقره، وتارة لانشغاله بروحه وعقله، أكثر من جسده. (نكمل الأسبوع المقبل)
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة