عبدالله عبدالسلام
قبيل منتصف التسعينيات، زرتُ الولايات المتحدة.. مع مجموعة من الصحفيين المصريين، في منحة دراسية مدتها 3 أشهر ونصف الشهر لدراسة الصحافة. تجولنا آنذاك في العديد من المدن والولايات.
من أهم ما لفت انتباهي.. الاهتمام الكبير بالماضي. مبانٍ قد لا يزيد تاريخها على مائة عام، أو أجهزة أو معدات قديمة؛ مثل ماكينة الخياطة سينجر، ومازالت بعض المتاحف تحتفظ بواحدة منها.
في الجنوب الأمريكي تحديداً، تحدث أساتذة جامعيون سود.. بفخر، عن مقتنيات تعود لأجدادهم خلال القرن الـ19. قال أحدهم: «إنها جزء من هويتنا.. ومن لا يهتم بها، عليه الشعور بالذنب».
في أقصى الشرق، عندما تزور طوكيو – التي أعيد بناؤها.. بعد تدميرها خلال الحرب العالمية الثانية – ينتابك الانبهار.. عند التجول في المدينة القديمة.
… تشعر بأنك عدت للماضي البعيد، من فرط الاهتمام والتقديس.. الذي يتعامل بهما اليابانيون مع تراثهم المادي.
أما عندنا.. فحدث، ولكن عليك أن تشعر بالحرج.
قبل أيام، تناولت الغداء مع أصدقاء في أحد المطاعم بالسيدة زينب. بالقرب منه مسجد أثري يعود إلى عصر الخديو إسماعيل. بدا المسجد وكأنه إنسان يعاني الخوف والعزلة والرهبة. تحيط به المباني الخرسانية القميئة. يد الصيانة والترميم والاهتمام لم تمتد إليه، بل لم تلاحظه على ما يبدو. إنه نموذج لمئات وربما آلاف المباني الأثرية، ليس في القاهرة وحدها، بل كل أنحاء البلاد.. التي تركناها في الغالب لمصيرها.
لا ينافس هذا الإهمال، سوى عمليات الإزالة والهدم.. التي تحدث لبعض المعالم القديمة. وما جرى لمقابر أثرية في القاهرة، خلال السنوات الماضية، شاهد على ذلك.
… الهدم سهل، لكن الحفاظ على التراث والتاريخ والهوية أصعب بكثير.
… نتصور أن تلك الآثار عبء علينا، مع أننا لو أعدنا ترميمها، وحافظنا عليها، لتحولت القاهرة إلى مقصد للسياحة الدينية.. لا يقل أهمية عن كونها مقصداً للسياحة الفرعونية.
هناك حركة بناء هائلة في العاصمة الإدارية والعلمين والقاهرة والمحافظات.. طرق وكباري ومشروعات. هل يتصادم هذا مع ذلك؟.
هل الجديد لا يقوم إلا بالتخلص من القديم. قد لا يكون الهدم مباشراً، لكنه يحدث عن طريق استغلال المكان الأثري.. للغرض المادي فقط؛ إقامة دكاكين ومحال تجارية في حديقة قصر عابدين، وإقامة أنشطة ترفيهية فيه.. تشويه للأثر التاريخي الفريد.
المشروعات التجارية التي تريد محافظة القاهرة إقامتها في حي الزمالك نموذج آخر. الأكشاك المنتشرة حول مبان ومنشآت أثرية لا تضيف إليها، بل تهدد سلامتها. لا أحد يرفض الاستفادة المادية، لكن على ألا تضر بالأثر أو تخصم منه.
قصر عابدين، الذي كان مقراً للحكم قبل 1952، يمكن استغلاله.. بما يتوافق مع قيمته وأهميته. نحتاج – عندما نتخذ قرارات الهدم بأثر رجعي – إلى التأكد.. من خلال لجان علمية، أن الجديد أفضل من القائم بالفعل. مثلاً، يجب ألا يكون هدم أو وقف عمل منشآت ومراكب ومطاعم على النيل.. الحل الوحيد. هناك ضرورة للالتزام بالقانون، والتوافق على الإصلاح. الهدم يجب أن يكون الخيار الأخير «المر».
آباؤنا وأجدادنا أبدعوا وتركوا لنا تلك الآثار والمباني الفريدة. ولا يجب رد الجميل لهم بالتخلص من إنجازاتهم.
نقلاً عن «المصري اليوم»