Times of Egypt

ثلاثية غزة (3) – (1995-2025) ليس بعد العين أين!

M.Adam
مصطفى حجازي 

مصطفى حجازي..


«أعطونا النقب، ولا تجعلوا إسرائيل دولة صغيرة محشورة».. هيئة الوزارة الإسرائيلية.. في رسالة إلى الرئيس الأمريكي هاري ترومان في أكتوبر 1948.
«إن القوة اليهودية فاقت كل التوقعات، ومن الملاحظ أن هذا البلد الناشئ الصغير.. استطاع – من الناحية التنظيمية – أن يتفوق على دول أكبر منه، وذات أوضاع مؤسسية أقدم».. بعض مما جاء في نص مذكرة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.. الموجهة إلى البيت الأبيض، وإلى وزير الدفاع، عن سير المعارك في فلسطين في يوليو 1948 وتحديداً يوم منه27.
«هل ترى هذا القلم الرائع؟.. مكتبي هو الشرق الأوسط. وهذا القلم، أعلى القلم، هو إسرائيل. هذا ليس جيداً، أليس كذلك؟ كما تعلمون، هذا فرق كبير جداً».. «إنها دولة صغير جداً ومن المذهل أنهم استطاعوا تحقيق ما حققوه».
(على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في مؤتمر صحفيبالبيت الأبيض في فبراير )2025.
وفي برقية من السفير الأمريكي في إسرائيل «جيمس جروفر ماكدونالد» في 4 أكتوبر 1948، جاءت على خلفية اللقاء الذي تم مع القيادة الإسرائيلية مجتمعة.. وهو الاجتماع والذي إن جاء محوره الحديث عن مستقبل النقب، كان في حقيقته.. لقاء مؤسساً لمنطق وضرورات العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.. وكان مما خلص إليه اللقاء:
«أولاً: إن الولايات المتحدة لها من إسرائيل صديق ثابت وقوي، وهو صديق ينتمي إلى الغرب سياسياً وثقافياً. وإن إسرائيل ذاك الصديق الذي يشعر بالعرفان للتأييد الأمريكي، سوف يكون في المستقبل استثماراً ناجحاً.
ثانياً: إن الدول العربية كلها ضعيفة.. ومتأرجحة في سياستها، وصداقتها للغرب والولايات المتحدة يصعب إيجاد دليل عليها.
ثالثاً: إن الولايات المتحدة لا ينبغي لها أن تؤيد أي سياسة.. من شأنها أن تعطي النقب للأردن.. وإذا تورطت الولايات المتحدة في مثل هذه السياسة، فإنها لن تكسب رضا العرب عنها، لكنها سوف تؤثر على قوة إسرائيل، وتجعل منها دولة صغيرة محشورة، تشعر بالمرارة تجاه الولايات المتحدة».
كانت تلك – ومازالت – هي الحجج المنطقية التي تؤسس لتلك العلاقة العضوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل.. لم يتغير منها شيء. الأهم أن الولايات المتحدة – إلى جانب أي ارتباط عاطفي أو سياسي – اكتشفت باختبار علمي..أن القوة الحقيقية يمكن أن يكون لها حساب، يختلف عن حسابات الأعداد.. في منطقة مزدحمة بالمصالح الأمريكية. وأن الجانب اليهودي قادر – في هذا الصدد – أن يكون دائماً الجانب الأعلى كفاءة، والقادر على تحقيق نتائج مذهلة على كل الأصعدة – بتعبير الرئيس ترامب في العام 2025- في مقابل محيط عربي آسن خامل واهن الأثر.
نحن الآن وعلى قرابة مسافة ثلاثين سنة من أوسلو، التي كان من أجلها كل قتل للمعاني الكبرى.. والتي من أجلها أسقطنا كل موانع التحريم، وادعينا زوال دواعي القداسة.. في شأن فلسطين بل ومستقبلنا.. برغم بقاء الحقائق والقيم المؤسسة لها على ما هي عليه.
تكاد تأتي أوسلو.. كنقطة منتصف بين نكبتين؛ الأولى: كان مسرحها 1948؛ حيث آلة الاحتلال الإسرائيلية، تسمي الأراضي العربية.. واجبة الاغتصاب، وتعدد أسبابها لذلك. كانت حينها «النقب» هي العنوان. والثانية: في العام 2025 حيث تسمي إسرائيل- وبلسان وحنجرة أمريكية- «غزة والضفة، وما تيسر من سيناء، وما يتجاوز الجولان، وما يلامس الليطاني في لبنان، وما يطال أراضي الجزيرة العربية»؛ على كونه أهدافاً مستباحة، وغنائم جاء وقت قنصها.. ضماً أو اختراقاً أو توطيناً للاجئين.
دعاوى التوسع والاستيطان واحدة؛ ففي الأولى.. حين كان الأمر تثبيتاً لمرتكز أمر واقع، كانت «أعطونا النقب ولا تجعلونا دولة محشورة». وفي الثانية.. حينما بات الأمر حصاد ما كان.. من استباحة للعالم العربي – من قوى التخلف والاستبداد والذهول عن القدر- صارت الرسالة «إسرائيل دولة صغيرة جداً، في محيط واسع تماماً.. من الأراضي والثروات وهذا ليس جيداً».
في النكبة الأولى (1948)، حينما كان ميزان القوة، وقدرات الشعوب وحكوماتها.. لم يُقطع به، ولم يُختبر حتى نهايته، جاء القول والفعل اليهودي.. مستجدياً احتلال النقب. وفي النكبة الثانية (2025)، حينما صار البينة ساطعة على ثمانين سنة، عنوانها شعوب لا تعرف، وحكومات لا تريد ولا تقدر، جاء الصلف والتعالي؛ بإطلاق عنان حلم الاحتلال والهيمنة الإسرائيلية.. على كامل المحيط العربي.. من محيطه إلى خليجه، وإن تباينت المقاربات والسبل والأسلحة المستخدمة.
جاءت أوسلو- عربياً- على أرضية إنهاك الوجدان العربي، وانهزامه داخلياً؛ وكأنها خيار واجب، أسست له مقدمات منطقية.. تقول إن العمل العربي المشترك، فشل في أن يكون على قدر التحدي. وتقول إن ميزان المواجهات العسكرية.. كان دائماً في صالح إسرائيل، بدعوى تفوق السلاح الأمريكي لديها.. على السلاح السوفيتي لدينا حينها. وتقول إن تجربة المواجهة مع الولايات المتحدة.. كانت مكلفة، ولم تنتهِ إلا بمزيد من الرضوخ لهيمنتها. وتقول إن التشبث بالمحرمات والمقدسات والحقوق التاريخية، هو نوع من المثالية الحالمة والخائبة، والمخاصمة لحقائق الحياة.. المؤسسة على البراجماتية، وكل ذلك لم يجلب إلا مزيداً من الهزائم. وعليه، فإن التماهي في قبول الأمر الواقع – وفقاً للرواية الصهيونية – قد يكون أقل كلفة وأكثر إثماراً.
جاءت أوسلو- عربياً – بلسان حال يقول: نحن أمة بلا إرادة.. لم يكن لنا إرادة يوماً ولن يكون!
بينما جاءت أوسلو- إسرائيلياً- في زمن أزمة إسرائيلية حقيقية، وهي الانتفاضة الفلسطينية. وعلى أرضية عقلانية، تبحث عن مخرج يبعثر الانتفاضة.. بعد أن استحال كسر عظامها. كما عن محاولة للهروب من مواجهة إرهاصات مقاومة إسلامية جهادية، استحال التخطيط علمياً ضدها. وهي مقاومة «من أناس يتسابقون بجنون إلى الموت» وفقاً لتعبير إسحق رابين في وصفها.
كما جاءت أوسلو بذات المنطق – الذي يلوح فى الأفق جلياً الآن – وهو تصدير التزامات إدارة حياة فلسطينيي غزة والضفة.. إلى أطراف أخرى. كان ذلك.. بإعادة تموضع للاجئي النكبة الأولى.. على أراضي غزة والضفة منذ ثلاثين سنة. وصار الآن بنزحهم إلى أراضٍ أخرى – عربية أو غير عربية – كما تتساقط الكلمات من لسان دونالد ترمب الرئيس الأمريكي الحالي.. كما على لسان وزراء إسرائيليين كأمثال «يسرائيل سموتريتش».
ولأن ليس بعد العين أين..
فما نحن بصدده، هو مائتا سنة أو يزيد – بين تيه ووهم وتقية ومراوغة إرادة – على ضفاف العرب، يقابلها مائتا سنة.. من استجلاء الإرادة، والتأطير الاستراتيجي، والتخطيط، وبناء القدرات، والاستثمار في تناقضات النظام العالمي، وبناء أطروحة يهودية.. قادرة على التماهيفي مصلحة القوى الإمبراطورية الكبرى؛ أيما كانت. وحض تلك القوى.. على رؤية مصالحها بعيون يهودية – وإسرائيلية خالصة – ذاك هو الحال.
مائتا سنة، أريد للأسطورة الإسرائيلية.. عن «أرض إسرائيل»، و«شعب الله المختار»، و«مملكة داوود»، و«الهولوكوست»، و«يهودا» و«السامرة».. أن تغدو الحقيقة الواحدة، التي أُنسي كاذبوها ومختلقوها كونها كذبة.
يقابلها مائتا سنة – أو تزيد – لعقل العربي.. يتطوع، أو يُرغَم، أو يُقمَع.. لكي يذهل عن حقائقه، ومحرماته، ومقدساته، وأصل حقوقه؛ فينسى.. كرها وقمعاً، أو يتناسى.. طوعاً ويأساً!
مائتا سنة.. ونحن مازلنا- وبرغم كل أوهام السلام، أو محاولاته، أو شذرات حقائقه. برغم كل نواياه الطيبة، وسذاجته، ودسائسه – ما زلنا في حالة حرب تبدو وأنها توقفت، ولكن دون نهاية حاسمة، ودون توافق بالرضا.. يؤسس للاستغناء عن السلاح.
ولمن أراد أن يسمي ذلك سلاماً، فله ما شاء. ولكن تلك ليست حقيقته؛ فهو – في أحسن أحواله – هدنة على شفير الانفجار، دون حاجة إلى أسباب انفجار جديدة؛ فكل أسباب الانهيار مخبوءة في طبيعته، وكامنة فيها.
ومن هنا.. وحيث لا يبدو كثير من تغيير في معطيات الصراع وركائزه المؤسسة. بل ويبدو كثير من السفور الإسرائيلي.. في التعاطي مع الوضع العربي، والإمعان في احتقاره، والتقليل من شأن قدراته.. على الفكر، والتخطيط، والنهوض، والمواجهة؛ لأن الرأي الإسرائيلي-الأمريكي والغربي- في مطلقه – فينا هو ما زال الرأي الذي ارتأته بريطانيا – المحتلة منذ مائة عام – بأننا شراذم غلاظ القلوب، ضيقو العقول، سيئو الطوايا. لا كلمة لنا، ولا قدرة. منبتون عن العلم، منعدمو الأهلية الإنسانية. نُقاد، ولا نقود. لسنا أهلاً لندية ولا شراكة، بل قطعان تابعة.. كثيرة اللغط، كثيرة العدد، كثيرة الثروة. غثاء كغثاء السيل، يستطيع الغرب – وإسرائيل – أن يزيحونا ببعض من ريح قوة.
آن لنا أن نغادر خداع أنفسنا، وألا نقيم على أوهامنا. آن لنا أن نتوب عن كل تقية سياسية واجتماعية.
مرة أخرى.. ليس بعد العين أين..
علينا أن نرى الأمور على ما هي أمامنا؛ فنحن الآن.. لسنا كقبل مائتي سنة، نُعذَرُ بجهالة وتيه. ولسنا كقبل مائة سنة، قد نُعذَرُ بأوهام أيديولوجيا.. تَعِد، ونظام عالمي يتشكل؛ فالآن.. خُلي بيننا وبين حقائق.. لا تخادع، ولا تكذب!
الخطوات العملية.. لاحتلالنا مرة أخرى، تجري.. لن يدرأها حوارات ديبلوماسية، لا تكون أبداً بين مُستعمِرٍ يُملي، ومُستعمَرٍ يخنع.
ولن يدرأها قوة عسكرية.. هي شوكة واجبة، ولكن كسرها تاريخياً.. بالحشد والتآمر، ليس بمستحيل. وفي تاريخنا – نحن «مصر» – وما جرى على جيوشنا وأساطيلنا وأقاليمنا – في بداية القرن التاسع عشر – خير برهان.
ولن يدرأها أوهام المستقبل الرغد، وآفاق التنمية المشتركة.. بين ذئب وحملان.
ولن يعللها اتفاقات ووعود. فمخطئ من ظن يوماً.. أن للثعلب ديناً؛ كقول «شوقي».
لا أمل لنا في بقاء، ولا حياة.. إلا بأن نواجه الحقائق – مهما كانت ثقيلة مكلفة – باستحقاقات مواجهاتها. بأن نحرر الأمة من ربقة جهل واستبداد. أن نخلي بينها وبين العلم والعقل. أن نستنهض إبداع آحادها ولا نخشاه. أن نفكر – ولو لمرة – كما فكر عدونا، فأنشأ دولته الكذوب.. على أنقاض حقائقنا، وحفظ شعبه.. بتضييع شعوبنا. بل.. وملك، وهيمن.
… أن نتلمس إرادة الحياة والحرية.. أن نخلقها.. أن نراكمها. أن نعرف ألا وجود لنا.. دونها.
… أن نفكر – ولو لمرة – كما فكر عدونا.. في أن «رأي الجماعة لا تشقى البلاد به، رغم الخلاف.. ورأي الفرد يشقيها».
فَكِّرُوا تَصحُّوا..
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة