مصطفى حجازي
ما زلنا – في هذا المقال – نحاول أن نصدق سعي الوعي والمعرفة، ونتلمَّس – في كنفهما – إحياء بعضٍ من الإرادة الغائبة.. نُكمل ما بدأناه في تحليل ما كان في المائة الأولى من ثلاثية غزة1798-1897؛ مائة «التيه والجهالة».. ونبحر في المائة الثانية، التي كانت مائة «الوهم والتُقيَة».
كان القرن التاسع عشر.. هو منبت الأسطورة، كما كان منبت كل معاني المقدسات والمحرمات.. التي عاشت قضية فلسطين في كنفها لقرن ونصف تلى، وحتى يومنا هذا. وهي معانٍ ما زالت حية في وجدان شعوب العرب الحية.. مهما أريد لها أن تُقتًل أو تنتحر، أو يُفسق بها جهراً.
ولنرى كيف كانت – ولم تزل – مصر.. هي جوهر الصراع الصهيوني على فلسطين والشرق. كيف كانت – ولم تزل – مصر هي مبتداه ومنتهاه. نسوق – في السطور القادمة – مذكرة كتبها الكولونيل «ريشارد ماينرترزهاجن» – مدير العمليات في الشرق الأوسط في الحرب العالمية الأولى – وبأوامر من اللورد «اللنبي».. قائد الجيوش البريطانية التي غزت فلسطين، وأخرجت الأتراك منها. وهي مذكرة.. موجهة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك «لويد جورج» في عام 1921.
المذكرة.. أقرب إلى كونها تصور لمستقبل مصر والمنطقة – وسيناء على وجه الخصوص – منها إلى مذكرة تقدير موقف.. كما أوردها الاستاذ محمد حسنين هيكل؛ في الجزء الأول من كتابه «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل».
ويلزم أن نلحظ أن موضوع المذكرة المحوري- في عام 1921- كان السيادة على سيناء..!
سيناء إذاً، كانت الوطر بعد فلسطين التاريخية. وسيناء من جديد.. إذاً!
«طلب مني الماريشال اللنبي، أن أرسل اليكم مذكرة غير رسمية.. عن السيادة على سيناء.
وهو موضوع له أهمية خاصة.. لا بالنسبة إلى الظروف الراهنة فحسب، بل بالنسبة إلى السنوات القادمة أيضاً. واسمحوا لي بتناول هذا البحث بإسهاب:
إننا نسير بحكمة زائدة، مستهدفين السماح لليهود بإنشاء وطنهم القومي في فلسطين؛ فقد حررنا العرب من النير التركي، ولن نستطيع البقاء في مصر إلى الأبد، وقد تمخض مؤتمر الصلح عن وليدين؛ القومية اليهودية، والقومية العربية. وشتان بينهما؛ فالأول يمتاز بحيويته ونشاطه، بينما يتسم الثاني بكسله وخموله.. المكتسبين من الصحراء.
يضاف إلى ذلك أن اليهود – بالرغم من تشتتهم – يمتازون بولائهم ورقة شعورهم وعلمهم.. كما أنهم قدموا لبريطانيا أحد رؤساء حكوماتها الممتازين («دزرائيلي»)، وسيلتصق العرب واليهود – من الآن إلى خمسين سنة – بقوميتهم، وسوف يزدهر الوطن القومي اليهودي.. إن عاجلاً أو آجلاً، ويصل إلى مرحلة السيادة، وإني أفهم أن بعض أعضاء حكومة جلالته، يتطلعون إلى هذه المرحلة.
وكذلك ستتطور القومية العربية.. إلى مرحلة المناداة بالسيادة من المحيط إلى الخليج، ومما لا شك فيه.. أن السيادتين العربية واليهودية ستصطدمان.
وإذا قُدِّر لمشروع الهجرة اليهودية إلى فلسطين أن ينجح، فإن الصهيونية ستتوسع على حساب العرب.. دون سواهم. وسيبذل العرب قصارى جهودهم.. للقضاء على قوة وعظمة فلسطين اليهودية، وهذا يعني سفك الدماء.
وبريطانيا تتحكم الآن في الشرق الأوسط، ونحن لا نستطيع أن نكون أصدقاء للعرب واليهود في آن واحد، وإني أقترح منح الصداقة البريطانية لليهود وحدهم.. بتقدير أنهم الشعب الذي سيكون صديقنا المخلص الموالي في المستقبل.
إن اليهود مدينون لنا كثيراً، وهم يحفظون لنا هذا الجميل: وسيكونون ثروة لنا، بعكس العرب.. الذين سيكونون سلبيين معنا، برغم خدماتنا لهم.
سوف تكون فلسطين حجر الزاوية في الشرق الأوسط، فبينما تحدها الصحراء من جهة، يحدها البحر من جهة أخرى، ولها ميناء طبيعي ممتاز (حيفا)، وهو أحسن ميناء على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ثم إن اليهود برهنوا على كفاءتهم الحربية.. منذ احتل الرومان البلاد، في حين يمتاز العربي بقسوته في الحرب، وحبه للسلب والتدمير والقتل.
والآن، دعني أتكلم عن فلسطين.. بالنسبة إلى مصر: ففي حالة تطور السلاح – من طائرات ودبابات – سيكون الفصل في المعركة للسلاح الأحدث، وللشجاعة وقوة الأعصاب والصبر، ولذلك فإني أرى في مصر.. العدو المسلح لليهود!
وبتطور القوميتين العربية واليهودية.. إلى مرحلة السيادة، وبخسارتنا قناة السويس في سنة 1968 – أي بعد 47 سنة – فإن بريطانيا ستخسر مراكزها في الشرق الأوسط. ولتقوية هذه المراكز، أقترح ضم سيناء إلى فلسطين. فقبل سنة 1909، كان الحد التركي المصري ممتداً من رفح في الشمال إلى قرب القناة. وكان شرقي سيناء وجنوبيها.. قسماً من الحجاز، الخاضع للعثمانيين. وفي أكتوبر سنة 1906 منحت مصر حق إدارة سيناء.. حتى الخط الممتد من رفح إلى رأس خليج العقبة.
أما ملكيتها فبقيت لتركيا. وقد احتلها اللورد اللنبي بجيشه البريطاني.. دون مساعدة الجيش المصري، فأصبح مصيرها منوطاً بقرار من الحكومة البريطانية المحتلة.
وفي حالة ضم سيناء إلينا، فإننا نربح حداً فاصلاً بين مصر وفلسطين، ونؤكد لبريطانيا مركزاً قوياً في الشرق الأوسط، مع اتصال سهل بالبحرين المتوسط والأحمر، وقاعدة استراتيجية واسعة النطاق، مع ميناء حيفا الممتاز الذي سنستعمله بموافقة اليهود.
ومن حسنات هذا الضم، أنه سيُحبط أية محاولة مصرية لإغلاق القناة.. في وجه ملاحتنا، كما سيُمكِّننا من حفر قناة تربط بين البحرين المتوسط والأحمر، ثم إن ضم سيناء لن يثير أية قضية قومية ضدنا، إذ إن البدو الرحل المقيمين فيها.. لا يتجاوزون بضعة آلاف.
إمضاء
ماينرتزهاجن».
وبصرف النظر عن الأوصاف والنعوت – قدحاً أو مدحاً في العرب أو اليهود – فإن المذكرة من الوضوح بمكان، ألا يقبل أي من أجزائها التأويل.
فقضية ضمان الفصل بين مصر وفلسطين والشام.. بالضرورة حاضرة، كما قضية تحجيم السيطرة المصرية على قناة السويس، ثم خنق القناة وتجفيف تفردها فى الملاحة العالمية.. بقناة منافسة.
كما أن قضية الدعم المطلق، والتحالف غير القابل للتغير.. بين القوى الغربية وإسرائيل – على حساب المصالح العربية – ينطق به كل حرف في تلك المذكرة. وأخيراً وليس آخراً،فإن مصر وحدها هي العدو المسلح.. المتحسب له، للكيان اليهودي المغتصب لأرض فلسطين.
وحتى وبعد أن انتقلت الراية الإمبراطورية إلى يد الولايات المتحدة.. بعد الحرب العالمية الثانية، وتجسَّد القرار الأمريكي في الرئيس ترومان. لم يكن أقل حماساً لوجود الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين، ولا أقل اقتناعاً بضروراته للمصالح الغربية. كما أنه لم يكن – هو وإدارته – أقل استهانة، أو أكثر احتراماً.. لما يمثله العالم العربي حينها؛ كحليف أو شريك أو ند، أو حتى تابع موثوق.. مقارنة بما تمثله إسرائيل المغتصبه لأرض فلسطين.
وقد جاءت كل تلك المعاني.. في مراسلات مشابهة – ولكن للإدارة الأمريكية – تستطيع المذكرة.. المسوقة في قبل، أن تكون «مثلاً شروداً» على التوجهات الغربية والإمبراطورية.. تجاه كل ما هو عربي.
أهم ما يُستقى من تلك المذكرة، أن جوهر المعاني- التي عاشها الوجدان العربي.. من مقدسات ومحرمات حيال قضية فلسطين – لم يكن من أوهام العواطف، أو شحنات من القومية والوطنية الزائفة. وأن التماهي في نصرة فلسطين، ليس تزيداً أو خللاً.. في الأولويات المصرية تحديداً، ناهينا عن الأولويات العربية.. كما يتوجب، ولكنه هو عين نصرة للقضايا الوطنية المصرية والعربية.
الانتصار لفلسطين- فوق كونه قضية إنسانية- هو عين الدفاع عن الوجود المصري والعربي، بل هو عين الذود عن ما تبقى من حريتنا، ودرء سيناريوهات الاحتلال والإذلال للأمة العربية ودولها. وكما أشرنا – في المقال السابق – فالأمر قد صار.. وكأنه نسخة مستحدثة من الحملات الصليبية على بلادنا، ولكنها طبعة صهيونية يهودية.. أكثر فجاجة ودموية. والأخطر، أكثر وعياً بدروس التاريخ، ومن ثم رغبة في إبقاء التمزق والتيه العربي، والشرقي.. إلى أبد.
كان ذلك المعنى يقيناً حاكماً.. في الوجدان المصري والعربي، دونما تململ أو مماحكة. وقد عُمِّدَ بالدم في مواجهات دموية منذ حرب 1948 و1956، وبلغ ذروة ألمه في عام 1967، وارتقى سنام مجده في أكتوبر 1973.
لم يلتفت الكثيرون إلى أن ذلك اليقين، كان يراوح.. بين «وهم» الأمة المجسدة بالمصلحة والمنطق، وبين «التُقية» والمتاجرة بمعنى الأمة وأحلامها، بل وأسس وجودها. وأن ذلك اليقين كان قد نزف كثيراً.. على مذبح الديكتاتورية، وحكم الفرد، وضيق الأفق، وغياب الأهلية. وما أورثه ذلك كله الشعوب العربية من إفقار.. ساقها تتسول قوتها، وهي فوق أرضٍ ركازها يُغني العالم كله. ومن إذلال.. ساقها تتسول حريتها وكرامتها وقدرها بين الأمم، وهي في موقع قادر على أن يسود، متى وُعِيَ قدرُه. وأكثر ما نزف عليه ذلك اليقين، كان مذبح التقية السياسية، التياعتمدت من قضية فلسطين منبراً للاستهلاك والارتزاق السياسي.
نستطيع أن نقسم المائة الثانية..«سني الوهم والتقية» تلك- من حيث بزوغ الإرادة وشحوبها – إلى ثلاث مراحل رئيسية، تكاد تبدأ وتنتهي عند ذات النقطة.. وكأنها دائرة مفرغة كاملة.
الأولى: هي مرحلة التماهي في رواية الخصوم والأعداء، والاستنامة لوعود فاسدة، بل والانخراط الفعلي في دعم ما من شأنه تقويض المصالح العربية، والتعجيل بالهزائم، وهي المرحلة من 1897 وحتى 1947؛ التي كانت التقية العربية الرسمية، والجهالة الشعبية.. تجاه عروبة فلسطين، تهرول باحثة عن ضالتها في تحالف مع مستعمر.. لا يحتاج تحالفها. فكانت كل إيماءة عربية – أو إسلامية (تركية) – رسمية، بقبول توطين اليهود.. قبل وبعد وعد بلفور، كما كل فوران شعبي – مهما كان نقياً – دونما قيادة واعية، يمثل تأكيداً لبريطانيا والغرب.. بأن الإرادة العربية – قبل الجسد العربي والإسلامي- مستباحان لكل نخاس مستعمر.
كان «ضلال القصد وضلال السعي» هما العنوان..!
ثم جاءت المرحلة الثانية: من 1947 وحتى 1977، وهي- بوقع النكبة في1948- صارت مرحلة ملزمة.. بجلاء الوجهة وسلامة القصد، فلم يعد التماهي فى رواية إسرائيل – ومن وراءها – وارداً أو ممكناً. فقد كان العداء سافراً.. تجاه كل ما هو عربي، حتى لم يدع مجالاً لتأويل.
ولكن، إن وضحت الوجهة.. ضلت السبل. سنون- وإن تبدَّى فيها طيف إرادة عربية شاحب- بقيت سني شحن عاطفي، وتوطئة لزعامات شخصية.. ضُيِّعَت فيها الشعوب، أو كادت.
وليدور الزمان دورة كاملة، وليعود الحال إلى ما كان عليه.. في مطلع القرن العشرين؛ من التماهي بالمنطق، أو بالاضطرار في رواية الخصوم الممجوجة. تلك التي تحاول أن تعيد تعريف الصراع.. على كونه اختلافاً بين مستحقين.. على حق متنازع. لا على كونه اغتصاباً من محتل.. لما ليس له؛ فكانت مرة أخرى.. نقطة «ضلال القصد وضلال السبل»..!
ولتذبل تماماً الملامح الشاحبة.. لإرادة الحياة والحرية والبقاء.. في صراع إنساني، قبل أن تقتل بأوهام البراجماتية والعقلانية الكذوب.
وفي سبيل ذلك التماهي السفيه.. في رواية الخصوم، وعلى خلاف بداية القرن.
ولأن أوهام البراجماتية كانت قد طالت قطاعات شعبية ونخبوية، تتجاوز السلطة. كان لا بد من قتل المعاني، أو الإصرار على دفعها للانتحار.. حتى يكون اقتلاعها من النفوس؛ بمثابة تخلص من وزر موات، ويكون الفسق بها جهراً.. ليس مجلبة للعار، أو حتى للشعور بالذنب. وليجري ما جرى على معاني الأمة الواحدة، والمصير الواحد، والعدو الواحد.
ومن تلك النقطة – وتلك النقطة بالتحديد 1977-1997- بزغت كامب ديفيد، ووادي عربة، وأوسلو.. حتى وصلنا إلى قاع الاتفاقات الإبراهيمية، ومنها إلى إرهاصات النهاية.
فَكِّرُوا تصِحُّوا.
نقلاً عن «المصري اليوم»