أحمد الجمال..
في محمية سيكويا – بجبال سييرا نيفادا في ولاية كاليفورنيا – وقفت أتأمل الأشجار المعمرة، وحاذرت أن أدوس بقدمي على الحشائش من حولها، إذ قرأت لافتة صغيرة مرشوقة في الأرض: «من فضلك.. هذه الحشائش كائنات حية.. اتركها تتنفس وتعيش».
وفي لحظة وجدتني أدخل في جذع شجرة صنوبر معمرة اسمها «جنرال شيرمان»، دخلت من فتحة بين اللحاء والخشب، وتقدمت عدة خطوات، وانتابتني موجة بكاء غزير، ورددت آيات من القرآن والإنجيل والتوراة.. وصرت أردد: «ربنا ما خلقت هذا باطلاً»!
وفي فيينا خرجنا نتمشى.. وصلنا لمقابر مدفون فيها عظماء من الأدباء والفنانين والسياسيين، والنجيل الأخضر والأشجار الوارفة ينتشران في المكان، وبينها ممرات فيها دكك خشبية وتماثيل بديعة!
وقبل ذلك وبعده عشت في قريتنا، وعشت في الحي الشعبي الذي سكنا فيه بطنطا، مشاهد لا تقل دلالة.. عن محمية أمريكا، ولا عن مراقد فيينا. عشت في دارنا الريفية، طينية الأرضية، النظافة اليومية من قبل شروق الشمس.. المقشات المصنوعة من سباطة النخل الجافة – أو من قحف الجريد – تكنس التراب.. والكوز يمتلئ مرات بالمياه لرش وسط الدار. ثم الانتقال للحارة أمام الدار.. وفي كل عرض الطريق، وطول الدار، يتم الكنس والرش.. وإذا حدث وكانت «لياسة»، أي خلطة طين مع تبن وماء وتترك لتتخمر، ثم تؤخذ منها كميات تُفرد على جدران الطوب اللبن لتغطية الشقوق، ولحماية القوالب من التآكل؛ الحرص شديد على لياسة محكمة ناعمة، يتم صقلها بقاع صينية نحاسية.. كنا نسميها «لحوقي»، تُصنع من النحاس، ولها عمق مستدير، مثل صواني الفرن الآن.. ولمزيد من الإحكام، كانت بعض أمهاتنا وعماتنا وخالاتنا.. يتفنن في تزيين اللياسة الطينية.. بخطوط وأشكال، تُحفر أو تُنحت.. والطينة مازالت طرية، لتجف بعد ذلك ونراها عرائس أو نجوماً، أو أشكال حيوانات منحوتة بطريقة بدائية.. ولكنها جميلة.
وشفنا صانع الحصر «الحصري» وهو يُحكم جدل عيدانها، بحيث يستعصي نفاذ إصبع من يريد اختبار جودتها من بين العيدان، ثم يعمد الحصري إلى تزيين الحصيرة – من حجم «القياس المزدوج» إلى حجم «حصيرة الصلاة» – بخطوط ورسوم.. ملونة بالأزرق والأحمر؛ على شكل محراب أو مئذنة.
وشفنا أيضاً التفنن في جدل سعف الخوص.. عند مقدم عيد القيامة. وشفنا الأيادي والأذرع المزينة بالوشم الأخضر البديع. وحتى البهائم كان يتم تزيينها؛ فالإبل والحمير يقص وبرها وشعرها، ويتفنن الأسطى رحيمة.. في رسم مثلثات ومربعات على أبدانها. والبقر والجاموس تعلق في أعناقها أطواق من حبال، تحمل خرزاً أزرق، أو عظاماً للوقاية من العين الردية.
وكما شفنا.. سمعنا أيضاً، سمعنا مواويل وأغاني حصاد القمح والأرز، وجني القطن، وتقطيع الذرة والفول، ومواويل السهرانين.. حول راكية النار بجوار الساقية. وسمعنا الأرغول والناي، وحتى الجنازات.. كان فيها ضرب حزين على دفوف «الطار»، يصحبها عويل الثكالى والأرامل ونحيب الرجال.
ومن أقصى الشمال والغرب في أمريكا وأوروبا، إلى عمق ريفنا.. كانت – وستبقى – الأمور من مظاهر الجمال والحسن.. الذي هو ضد القبح. وكلاهما ثقافة.
فأما ثقافة الجمال – صنعاً وتذوقاً وممارسة – فقد ورثناها منذ كان أصل جيناتنا «آدم وحواء» في الجنة… التي فيها خرير مياه الأنهار وإيقاعات تساقطها، وفيها حفيف أوراق الشجر ونسيم الريح، وفيها تغريد الطيور، وإيقاعات تسبيح الجميع بأسماء الخالق وصفاته، وفيها ألحان مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، بل تذوق وإحساس محض عميق.
ونزلنا.. وبصحبتنا أصل القبح، ومورث مسلكياته. الشيطان الذي حرضنا على سلوك القبح.. حتى صار السلوك مع الزمن.. موروثاً ثقافياً ضارب الجذور، يصيب – كالوباء – كثيراً من البشر؛ ليصبحوا.. وكأنهم مجبولون على كل ما هو قبيح؛ من قبيل الكراهية والإيذاء والحسد والنميمة، وهدم وتقويض كل ما هو جميل، ليصبح النشاز المزعج.. زاداً لآذانهم، ويصبح التلوث البصري.. زاداً لعيونهم، ويصبح الشر والحقد وانعدام البصيرة.. زاداً لأفئدتهم!
وعندي، فإنه لا تفسير لمسلك من يخربون ويهدمون عامًرا، ومن يزيلون خضرة ويقطعون شجراً، ومن يطربون لصوت البلدوزر.. وهو يفترس العامر، ويقتل الحي.. إلا تفسيراً واحداً، هو أن القبح الشيطاني سكن جيناتهم.. وقبح الكراهية والحسد والحقد، وتمنى زوال نعمة الغير.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نقلاً عن «المصري اليوم»