Times of Egypt

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربياً

M.Adam
نبيل عبدالفتاح

نبيل عبدالفتاح

عديد من الأسئلة الكبرى التي شغلت الفكر العربي الحديث والمعاصر؛ بعضها حول ثنائيات تبدو متضادة؛ مثل التراث والحداثة، والأصالة والمعاصرة، ولماذا تقدَّموا ولماذا تخلَّفنا؟ وفق شكيب أرسلان، لماذا تراجعت حركات التجديد في الفكر، ثم الخطابات الإسلامية؟! 

غالبُ هذه الأسئلة الكبرى.. اتسمت بالعمومية المفرطة والسيولة، ومن ثم جاءت بعض الإجابات عنها.. صالحة للإجابة عن كل الأسئلة، ولكنها لا تجاوب – على نحو علمي وتاريخي وموضوعي – عن شيء.. إلا في فضاءات التعميمات، لا سيما في ظل مجتمعات عربية، وسلطات سياسية، وعقول نخبوية.. غير مدروسة تكوينياً وتاريخياً، وسوسيولوجياً، ومعرفياً، إلا قليلاً مع عبدالله العروي والجابري وعبدالإله بلقزيز، وبعض من مثقفي المشرق العربي، مثل ناصيف نصار، وجورج طرابيشي، وآخرين!

أحد الأسئلة التي تُطرح.. منذ مطلع الحداثة العربية المجهضة، فشل السعي لبناء أنظمة سياسية ديمقراطية تمثيلية.. على مثال الأنساق الليبرالية الغربية. طُرح السؤال عقب بناء الدول العربية، ووطنياتها الهشة.. ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي، لعدم استكمالها الشروط التاريخية والاقتصادية والاجتماعية.. لبناء الأمة، باستثناء مصر ودولة المغرب وتونس.. إلى حد ما! 

بعض الإجابات ركَّزت على علاقات التبعية السياسية، والاقتصادية.. بالمركز الإمبريالي الغربي، أو العلاقة مع الاتحاد السوفيتي السابق، والكتلة الشيوعية! عديد من الإجابات دارت حول مفهوم الطغيان الشرقي.. استلهاماً من المرجعية الماركسية، أو من التراث السياسي الطغياني في التاريخ الإسلامي، أو من مفهوم السلطان المتغلب.. في فقه الجمهور السني، وبعض فقهائه من التابعين وتابعي التابعين.. الموالين للسلطان المتغلب بسيف السلطة! 

بعض هذه الإجابات العامة والسائلة.. كانت نظرية، وبها بعض من التفلسف، وركَّزت على الدولة، والسلطة، والدين السياسي، ومن ثم كان التنظير عاماً، وبعضه مستمداً من مفاهيم استشراقية. 

لم تكن هناك دراسات ميدانية في العمق.. للدولة ما بعد الاستعمار، وتحليل للمصادر الاجتماعية.. لمكونات القوة داخل بنية النظام إلا قليلاً، ومن ثم درس للسياسات والقرارات السلطوية، ولا التركيبة الاجتماعية للبرلمانات، وسياسات التشريع، وطبيعة المصالح التي تحملها وتنحاز لها ولحمايتها، أو ضعف الرقابة البرلمانية، وضعف المستويات السياسية لأعضاء البرلمانات، والعائلات التي ينتمي بعضهم لها، أو رجال الأعمال. 

غياب بعض هذه الدراسات.. إلا قليلاً – على كل حالة عربية – مرجعه القيود على حريات البحث الأكاديمي والاجتماعي.. في الغالبية العظمى من السلطات العربية، بقطع النظر عن النصوص الدستورية.. التي تقرر هذه الحرية، مع حرية الرأي والتعبير! 

بعض المقاربات السابقة حول فشل مساعي الديمقراطية، دارت حول السلطة وطبيعتها، دون النظر إلى قلة قليلة من البحوث والدراسات، التي ركَّزت على بعض الإعاقات البنيوية والدينية، والثقافية المجتمعية، التي تعوق الانحياز المجتمعي القيمي والثقافي والاجتماعي.. للديمقراطية، وثقافة الحريات العامة والمواطنة، وحريات الضمير والتدين والاعتقاد، بقطع النظر عن بعض مطالب وشعارات المعارضات، وقلة من المفكرين والمثقفين؛ ومن ثم تمثل الإعاقات البنيوية وتراكماتها وفوائضها التاريخية.. عوائق معقدة، إزاء تمثل الجموع الشعبية ثقافة الحرية، وتمثيلاتها في مؤسسات سياسية فاعلة، ومعبِّرة عن الفئات الاجتماعية الشعبية والطبقات الوسطى.. في عالمنا العربي وعن مصالحها، وعن إيمانها بالقيم السياسية الديمقراطية. 

يبدو لي أن التركيز على الإعاقات البنيوية – في تركيبات ثقافة المجتمعات العربية – من الأهمية بمكان، خاصة في ظل الأنظمة الشعبوية السلطوية، أو الأنظمة التقليدية في دول اليُسر العربية، وخصوصياتها، والتمايزات بين بعضها بعضاً، ومن ثم نرى أن عدم تشكل ثقافة الحرية والديمقراطية.. يرجع لعديد الأسباب على النحو التالي: 

عدم استكمال البناء الاجتماعي النضوج الطبقي؛ من حيث تشكل وتبلور الطبقات الاجتماعية وعلاقات الإنتاج.. من خلال حركة التصنيع وتطوراتها، ونضوج الوعي الطبقي والسياسي، نظراً لعدم تطور الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية، وانهيار نظام رأسمالية الدولة الوطنية، خاصة مع الخصخصة والعودة إلى الرأسمالية النيوليبرالية، وإغلاق المجال العام السياسي، وعودة ظاهرة موت السياسة، والشعبوية السلطوية. 

هيمنة ثقافة الدين الشعبي، والميثولوجيات الشعبية.. المؤسسة على الثقافة الريفية أو البدوية أو البدوية المميكنة – وفق سعد الدين إبراهيم – وشيوع القدرية، وقيم الاتكالية على الماورائيات وسردياتها الشعبية.. خارج وحول التدين الشعبي السائد. 

الميلاد المتعثر للفرد والفردانية.. كإرادة حرة ومسؤولة وكفاعل اجتماعي، وذلك قبل الثورة الرقمية وجيلي Z وآلفا ثم بيتا.. في المستقبل المتوسط والبعيد. 

شيوع بعض السرديات الدينية السياسية لدى بعض الجماعات الإسلامية السياسية المحافظة، والراديكالية والسلفية.. التي ترى في الثقافة الديمقراطية والحريات مناهضة لنسق العقائد والقيم الإسلامية، وأنها جزء من الصراع مع الغرب الاستعماري. 

بعض المنظرين الإسلاميين والحركيين.. يرون أن الديمقراطية الغربية تؤدي إلى تقويض مفهوم العقيدة الجماعية.. لصالح الإيمان الفردي الحر، ومن ثم تفكك قواعدهم الاجتماعية الشعبية. ومن الملاحظ أن هذه الجماعات تشرعن الخيار الرأسمالي في الاقتصاد، ومشروعاتها التجارية والاقتصادية الخاصة لبعض قياداتها، ولتمويل هذه الجماعات. 

أدت الثورة الرقمية إلى التماهي بين الأفراد، والتحقق الوجودي الرقمي على وسائل التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي التوليدي، بديلاً عن التحقق الوجودي في السياسة، والحياة الفعلية. وباتت حرية التعبير والتصوير الشخصي – عبر الصور والفيديوهات الوجيزة – بديلاً عن الحريات السياسية عبر الانتخابات، والعمل الحزبي المعاق، وغير الفاعل وخاصة جيلي Z وآلفا . من ثم تمثل هذه الإعاقات – التي تحتاج إلى دراسات ميدانية ونظرية.. مؤسسة عليها وموجهة لها – إعاقات بنيوية، إزاء ثقافة الحريات والديمقراطية.. متجذرة في تركيبات المجتمعات العربية، فضلاً عن طبيعة اختلالات الدول ووطنياتها الهشة، وسلطاتها السياسية، وتركيباتها، وسياساتها.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة