Times of Egypt

«توينبي» بعد 60 عاماً

M.Adam
وجيه وهبة 

وجيه وهبة..


في عام 1964 جاء إلى «مصر» المؤرخ.. فيلسوف التاريخ الأشهر في القرن العشرين «أرنولد توينبي»(1889- 1975). ألقى «توينبي» ثلاث محاضرات – في جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية – واختتم بمحاضرة رابعة في محافظة القاهرة، وقام الدكتور «فؤاد زكريا» بترجمة وإصدار المحاضرات الأربع والتقديم لها.
في سياق محاضرة «توينبي» الرابعة – التي كان عنوانها «الشرق الأوسط والسياسة العالمية» – تحدّث الرجل عن أهمية الوحدة العربية، قائلاً: «إن الشعوب العربية – في رأيي – ستظل حتماً ضعيفةً نسبيّاً.. ما دامت متفرقة الكلمة، وبالتالي ستظل تَلقَى معاملةً غير عادلة، أو سمِّها – إن شئتَ – معاملةً فيها تجاهل من الشعوب الأقوى منها. وأخشى أن أقول إن الحياة السياسية في هذا العالم، تجعل من المُحَتَّم أن يقابَل أي شعب بالتجاهل.. إن لم يكن لديه من القوة ما يجعله يُسمِع الآخرين صوته؛ ومن هنا كان من المهم لأي بلد أو شعب أو مجموعة من الشعوب أن تكون لديها القوة.. التي تمكِّنها من إرغام الآخرين على سماع صوتها، وعمل حساب لوجهة نظرها أو مصالحها..».
ثم راح «توينبي» يُعدد المعوقات التي تقف في سبيل تلك الوحدة المنشودة، إلى أن أتى إلى عبارة، نشعر- كمصريين – عند قراءتها، اليوم، بالحسرة، إذ يقول: «هناك عقبة أخرى في وجه الوحدة العربية، هي التفاوت الهائل في درجة التمدين بين مختلِف الدول العربية. ولقد ذكرت أن لهذه الدول كلها لغةً مشتركةً وأدباً مشتركاً وماضياً تاريخيّاً مشتركاً، غير أنها – بصراحة – متقدمة 150 سنةً من حيث التمدين على دول أخرى.. في شبه الجزيرة العربية».
ويا عزيزي القارئ، ويا مَن لم يَعِشْ تلك الأيام، منذ ستين عاماً، جئناك بقول مرجع تاريخي.. لا يلقي الكلام على عواهنه – هو «أرنولد توينبي» – ونعيد ونزيد كلامه؛ «مصر- بصراحة – متقدمة 150 سنة من حيث التمدين.. على دول أخرى في شبه الجزيرة العربية».
بالقطع كان لدى «توينبي» معاييره في قياس «التمدين» – بعيداً عن الغنى والفقر ودخل الفرد – فمصر في تلك الفترة (1964) لم تكن في أفضل أحوالها الاقتصادية. وكان جزء كبير من مواردها يُستنزَف في حرب عبثية في اليمن. ربما ارتكز «توينبى» في حكمه هذا.. على عوامل أساسية للتمدين؛ مثل الثقافة العامة والتعليم، ونهضة التصنيع، وغير ذلك.. مما شاهده بعينيه؛ فقد كانت هناك نهضة بنية ثقافية مؤسّسية حقيقية، وكان هناك تعليم ما زال جيداً، يسير بدافعية القصور الذاتي الناجمة عن الفترات السابقة. كان نظاماً تعليميّاً.. قادراً على إفراز مدرسين أكفاء، تتخاطفهم الدول الناشئة حديثة الاستقلال في المنطقة.
■ عندما قال «توينبي» إن مصر متقدمة من حيث التمدين مائة وخمسين عاماً عن دول أخرى في شبه الجزيرة العربية، لا بد أنه كان قد شاهد المصريين «المتمدينين»..في شوارع القاهرة والإسكندرية، أناساً بلا لحى.. بلا أقنعة.. بلا حجاب.. بلا نقاب.. بلا إسدال.. وبلا تحرش. كانت مقولة «الدين المعاملة» تتبدى – إلى حد بعيد – في السلوك الاجتماعي، بعيداً عن المزايدات الدينية الطقسية والشكلية. كان «رجال الدين» و«الوعاظ» يُمثَّلون في المجتمع بأعداد متناسبة مع احتياجات التركيبة السكانية، بلا مبالغة. لم يكن الحال كما هو اليوم، أشبه ما يكون بـ«واعظ لكل مواطن». وكان لهم أدوار وأمكنة في المجال العام لا يتجاوزونها. لم يكن «الوعظ» مصدراً للثراء الفاحش، وأداة للسيطرة والتسلط واختراق المؤسسات وتزييف الوعي وتغييبه.
■ تُرى إذا بُعث «توينبي»، اليوم، ماذا يقول عن مصرنا و«تمدينها» الحالي، مقارنة بدول شبه الجزيرة العربية؟ وهل سيكتفي.. عند المقارنة بالجانب المادي من «التمدين» والزخم العمراني والإنشائي المشهود، والبنى الأساسية؛ من طرق وكباري، ووسائل نقل وانتقال؟ وكيف سيرى – في ضوء معاييره للتمدن – حالة التعليم الآن في مدارسنا وجامعاتنا مقارنة بدول الخليج؟ وكيف سيرى مشهد ملايين المحجبات والمنتقبات – من جميع الأعمار – اللاتي تعج بهن الشوارع والمدارس والجامعات، مقارنة بانعدام وجود هذا المشهد منذ ستين عاماً؟ وهل سوف يُعيد حساباته عند مقارنة «تمدين» دول شبه الجزيرة العربية – اليوم – بتمدين مصر.. اليوم، حين يعلم أن هناك من دول شبه الجزيرة مَن تجرأ ونادى بمراجعة بعض التراث الإسلامي، وإعادة النظر في بعض الأحاديث غير المتواترة في كتب الأحاديث – مثل صحيح البخاري – مع العلم بأنه لا يوجد في مصر مَن يجرؤ على المناداة بذلك.. في ظل ثقافة سلفية تسلطية متنامية ومهيمنة؟ وهل سيظل على موقفه من «التمدين» المصري؟ وماذا سوف يقول عن «تمديننا» إذا تصفح إعلامنا، فوجده يعج بالدراويش والعمائم، وماكينات الفتاوى والأدعية التي تعمل على مدار الساعة بلا كلل ولا ملل؟
■ على الرغم من أن دول الخليج.. اليوم، لم تعد هي دول الخليج في زمن «توينبي»، علماً وتعليماً وثقافة وتمديناً، فإنه ما زال عندنا مَن يعيش أوهام تفوق شوفينية، لا أساس لها على أرض الواقع.
ولأن «التمدين» لا يُقاس بالجوانب المادية وفقط – مع التسليم بأهميتها – فإن «توينبي» لو عاد إلى الحياة، اليوم، لربما قال «إن هناك دولاً في شبه الجزيرة العربية متقدمة عن مصر.. مائة وخمسين عاماً».
العصاب السياسي
مضى ما يقرب من العام ونصف العام على المغامرة الحمساوية في السابع من أكتوبر 2023، واتضح لكل ذي عقل سوي.. مدى الخسارة الكارثية الفادحة الناجمة عن تلك المغامرة. وحينما ردد البعض – في الأيام الأولى للمغامرة – أن عملية السابع من أكتوبر قد أحيت القضية الفلسطينية، قلنا إنها مزايدات شعبوية رخيصة، ولكن حينما يصر البعض على ترديد نفس المقولة.. اليوم، وبعد أن اتضح هول الكارثة وتبعاتها السلبية؛ التي سيظل تأثيرها وتداعياتها على الشعب الفلسطيني، وعلى كافة شعوب المنطقة لعقود طويلة.. فإننا نرى في ذلك نوعاً من العصاب، وتصلب الشرايين السياسية، واستئنافاً لمسيرة بطولة الحناجر، والشعارات الساخنة التي يطلقها الضالون والمضللون.. من سراة السياسيين والإعلاميين، تلك المسيرة التي لم يَجْنِ منها شعبنا.. سوى المزيد من الهزائم والفقر والتخلف، حتى سبقنا «تمديناً» مَن كان يعتبرهم «توينبي»..متخلفين عنّا بمائة وخمسين عاماً.
ما زالت «مصر» الرسمية بعيدة عن الانجرار وراء المزايدات الرخيصة، ومراهقة الإعلام الشعبوي التحريضي.. من كافة التوجهات الإسلامية والسياسية.. إعلام ما قبل الهزائم والنكسات.
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة