د. نيفين مسعد
خلال أقل من سبعة أشهر.. قضاها توماس باراك مبعوثاً أمريكياً خاصاً لكلٍّ من سوريا ولبنان، أثار الرجل عدداً لا بأس به من الأزمات الدبلوماسية.. مع كثيرٍ من دول الشرق الأوسط. وكان العدد الأكبر من هذه الأزمات مع لبنان.. الذي ترجع له الأصول العائلية لباراك. فلم يكد الرجل يترك مؤسسة واحدة في لبنان.. إلا وهاجمها بعنجهية وقلَّة كياسة؛ بدءاً من الحكومة، مروراً بالصحافة، انتهاء بالجيش. ووصل به الأمر إلى حد وصف الدولة اللبنانية.. بأنها دولة فاشلة في أحد تصريحاته، وبتهديدها.. في تصريح آخر بأن تعود جزءاً من بلاد الشام؛ ما لم تقم بنزع سلاح حزب الله، وتُجري الإصلاحات المطلوبة.
لكن لبنان ليس وحده على أي حال؛ فهناك تصريح شهير لتوماس باراك، ينفي فيه عن جميع دول الشرق الأوسط وصف الدول القومية.. لكونها عبارة عن مجموعة من القبائل والقرى والعائلات والطوائف، ويقول فيه إن ترسيم الحدود الجغرافية فيما بينها، تمَّ بشكل عشوائي.. بموجب اتفاقية سايكس-بيكو في عام 1916، دون أن يدري باراك.. أن دولاً مثل مصر والعراق وتركيا وإيران.. لها حضارات عريقة ضاربة في القِدم، قبل أن تظهر للوجود الولايات المتحدة الأمريكية. أكثر من ذلك، لا يرى باراك أفقاً للسلام في الشرق الأوسط؛ لأنه كقارئ للتاريخ!! – كما يصف نفسه – يعلم أن هذه المنطقة من العالم، لم يتحقق فيها السلام منذ نحو مائة عام، وهو تحديد زمني ليس له أي دلالة تاريخية. هذا فضلاً عن أنه يثير السؤال المشروع التالي: إن لم يكن هناك أفق للسلام في المنطقة، فماذا يفعل هو فيها بالضبط؟ وما هي طبيعة مهمته؟.
أما آخر الأزمات التي أثارها توماس باراك، فكانت بمناسبة الآراء التي أبداها في منتدى الدوحة 2025؛ سواء خلال الجلسة الحوارية.. التي شارك فيها بحضور أسعد الشيباني – وزير خارجية النظام الانتقالي في سوريا – أو في التصريحات التي أدلى بها لوسائل الإعلام.
بعد أن نزع توماس باراك عن كيانات الشرق الأوسط.. صفة الدول، وأنكر عليها أي فرصة.. لتحقيق السلام، فإنه ذهب في منتدى الدوحة، للقول بأن اللامركزية.. لا تنفع في هذه المنطقة؛ فلا هي نجحت من قبل، ولا هي ستنجح إن طُبقِّت في سوريا. وللتدليل على وجهة نظره، ضرب عدة أمثلة، بتقسيم منطقة البلقان إلى سبع دول، وبالنظام الفيدرالي في العراق، وبالطائفية القائمة في لبنان. وكما هو واضح فإن فكرة توماس باراك عن اللامركزية.. هي فكرة مشوَّشة وغير واضحة في ذهنه، وإلا ما كان له أن يجمع في جملة واحدة.. بين البلقان والعراق ولبنان، رغم اختلاف الوضع القانوني لكل حالة من هذه الحالات الثلاث؛ فدول البلقان – التي أشار إليها – نشأَت ككيانات مستقلة.. بعد انفصالها عن الدولة اليوغوسلافية؛ كجزء من تداعيات انهيار الشيوعية في تسعينيات القرن الماضي، وهذا الانفصال.. كان في جزء منه سلساً.. كما حدث مع استقلال مقدونيا، وفي جزء آخر أتى بعد حرب قصيرة.. كما حدث بانفصال سلوڤينيا، وفي جزء ثالث ارتبط بحرب دامية.. كما حدث عند إعلان استقلال البوسنة والهرسك.
أما النظام الفيدرالي المعمول به حالياً في إقليم كردستان-العراق، فهو ثمرة دستور 2005 – الذي كُتب في ظل الاحتلال الأمريكي، وتبنى الانحياز للإقليم الفيدرالي على حساب المركز. وأما المحاصصة الطائفية السائدة في لبنان؛ فإنما تعود جذورها إلى الميثاق الوطني في عام 1943.. بين الزعيمين بشارة الخوري ورياض الصلح. وبالتالي فما الذي يجمع الدول المستقلة، مع الإقليم الفيدرالي، ومع نظام يأخذ بالديمقراطية التوافقية؟
… شيء إلا التلفيق غير الموضوعي، للمبعوث الأمريكي الخاص.
لكن الأخطر من عدم الوعي بالفروق الموضوعية بين الحالات الثلاث، والخلط التاريخي والسياسي بين الدولة البسيطة (كحالة مقدونيا) والدولة المركبّة (كحالة العراق)، وبينهما وبين طبيعة نظام الحكم (كمثل الحال في لبنان).. إنما يكمن في النتيجة المنطقية، التي يقودنا إليها تحليل توماس باراك. وهذه النتيجة هي: بما أن اللامركزية – أي تفويض المركز جزءاً من سلطاته لبعض الأقاليم أو المحافظات لتدير شؤونها بنفسها – لا تصلح في منطقة الشرق الأوسط، فإن هذا يعني – ببساطة – أن البديل هو نظام الحكم المركزي، حيث يتحكم المركز في كل مفاصل الدولة، ويجمع في يده كل السلطات.
ومثل هذا النظام لم يعد ممكناً له أن يستمر في العموم، إذ إنه يؤدي – عبر الزمن – إلى تراكم عوامل السخط الشعبي.. التي تنفجر في اللحظة المناسبة. كما أن هذا النظام – بالتأكيد – لا يناسب الدول ذات التنوع السكاني الكبير، التي تحتاج عناصره لبعض الحرية.. في التعامل مع خصوصياتها الثقافية والدينية. ولو أخذنا حالة سوريا كمثال، فإننا سوف نجد أنفسنا إزاء مطالبات بالحكم الذاتي من جانب الأكراد، ومطالبات بالانفصال من جانب بعض الدروز، فهل يتصور أحد أنه يمكن لهذه الجماعات الكردية والدرزية – فضلاً عن الجماعات العلوية والمسيحية – أن تقبل بالحكم المركزي، ناهينا بأن يكون هذا الحكم ذا خلفية متطرفة؟.
ولو ذهبنا إلى العراق، لأمكن لنا القول إن نظامه الفيدرالي – على الرغم من السلطات الواسعة جداً التي يتمتع بها إقليم كردستان – فإن هذا الوضع الاستثنائي.. هو الذي حمى العراق من انفصال كردستان، ولا يخطر ببال أحد، أنه يمكن التحول من الفيدرالية للحكم المركزي في العراق.. بدعوى أن هذا النظام فاشل. وهكذا، فإن تبنِّي توماس باراك لخيار الحكم المركزي – بوصفه النموذج الأنسب للشرق الأوسط – ينذر بتفكيك أواصر دول المنطقة، وإشاعة فوضى عارمة. والذي يتابع منا ردود الأفعال الغاضبة.. من الأكراد والدروز والمسيحيين – على تصريحات توماس باراك – يدرك أن المسافة واسعة جداً بين ما يقوله المبعوث الأمريكي وبين الحقيقة، فلقد اتفق أولئك وهؤلاء على أن هناك تجاهلاً لجذور الأزمة السياسية في المنطقة.
أما آخر ما أثارته تصريحات توماس باراك في الدوحة.. من مشكلات، فكان قوله إنه لا وجود للديمقراطية في الشرق الأوسط، وإن بوسع إسرائيل أن تدَّعي أنها ديمقراطية، لكن من الواضح أن النظم الملكية – التي تحرص على رفاهية شعوبها – هي النظم الأفضل. ومعنى ذلك أن باراك أساء للنظم الملكية.. بالتمييز بينها وبين النظم الديمقراطية، ما يعني ضمنياً أنها غير ديمقراطية. كما أن باراك – الذي اختص إسرائيل بالديمقراطية.. دون باقي دول المنطقة – شكَّك في مصداقية ديمقراطيتها؛ بقوله إن بوسعها أن تدَّعي الديمقراطية، والادعاء – كما نعلم – قد يكون صحيحاً، وقد لا يكون.
… كم كان الوزير والمثقف اللبناني الكبير غسّان سلامة حكيماً، حين نصح باراك – قبل عدة شهور – قائلاً له: «خِفّ الحكي».
نقلاً عن «الأهرام»