نيفين مسعد
يحفل تاريخ العلاقات الدولية.. بين القوى الكبرى ودول العالم الثالث، بالعديد من المفارقات التي تكشف عن درجة عالية من الميكيافللية والانتهازية السياسية. وتشاء الأقدار أن تكون إيران مسرحاً كاشفاً لهذه الانتهازية – كأوضح ما تكون – من خلال الإطاحة برئيس وزرائها محمد مصدّق، ثم من خلال محاولة إسقاط النظام الحالي.
المحاولة الأخيرة.. يجري التجهيز لها جهاراً نهاراً، وتحت أبصارنا جميعاً، ومن غير المستبعد أن يتم الاغتيال قبل نشر هذا المقال. بطبيعة الحال، ليست إيران الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي تعرضَت لعملية تغيير النظام من الخارج، فعلى مدى اثنين وعشرين عاماً لا أكثر – تمت الإطاحة بحكم حزب البعث في العراق.. عبر الغزو الأمريكي-البريطاني. كما تمت الإطاحة بحكم حزب البعث في سوريا.. عن طريق التدريب والتجهيز الاستخباراتي الدولي/الإقليمي.. لزعيم إحدى الجماعات المتطرفة، حتى إذا حانت ساعة الصفر، وجد الزعيم طريقه إلى دمشق مفروشاً بالحرير. وتمت الإطاحة بحكم العقيد معمّر القذافي.. من خلال التدخل العسكري المباشر لحلف شمال الأطلنطي.
إيران إذاً.. ليست الدولة الوحيدة في هذه المنطقة من العالم، التي تستهدفها عملية التغيير من الخارج، لكنها بالتأكيد.. تنفرد بكونها تقدم لنا نموذجاً ناصعاً للمكر السياسي، على اعتبار أنها تمثل ساحة لتغيير نظام معين للحكم، ثم محاولة تغيير نظام الحكم المناقض له. كما أنها تمثل نموذجاً فجاً للتجديد.. في استخدام أدوات تغيير النظم، بالاعتماد العلني والصريح.. لأداة الاغتيالات السياسية. وأظن أنه عندما يحين الوقت لتأريخ هذه المرحلة – من مراحل تطور الشرق الأوسط – تأريخاً موضوعياً؛ فسوف يقال عنها إنها كانت أشّد مراحله جنوناً، واستخفافاً بالقانون الدولي. وإلا فمن كان يتصور أن يأتي اليوم.. الذي يصرح فيه رئيس أقوى دولة في العالم جهاراً نهاراً، بأنه يعلم أين يختبئ مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكن الوقت لم يحن بعد لاغتياله؟!
في عام 2000، اعترفت مادلين أولبرايت – وزيرة الخارجية الأمريكية، في الفترة الرئاسية الثانية لبيل كلينتون – بأن بلادها لعبت دوراً في إسقاط رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدّق. ثم مضت ثلاث عشرة سنة، قبل أن يتم الإفراج عملياً عن بعض الوثائق السرية.. التي تحتفظ بها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.. عن طبيعة هذا الدور. ومع أن بريطانيا كانت هي المحرِّك الأساسي لعملية الإطاحة بمصدق، بسبب تأميمها شركة النفط الأنجلو-إيرانية. وجميع الدول الاستعمارية.. شديدة الحساسية إزاء قيام دول العالم الثالث بالسيادة على ثرواتها الطبيعية، إلا أن بريطانيا نجحَت في إقناع الولايات المتحدة بالانضمام إليها، خصوصاً وأن مصدَق كانت له ميوله اليسارية.. في ذروة احتدام الاستقطاب الأمريكي-السوفيتي.
وفي هذا السياق، بدأ اللعب على بعض التناقضات في الداخل الإيراني، وهي التناقضات التي تولدت عن الضغوط الاقتصادية، وتبرم بعض رجال الدين من توجهات مصدّق، فبدأ تحريك المظاهرات وانطلقَت الحملات الإعلامية، وفي النهاية أطيح بمصدّق، وحكم عليه بالإعدام، ثم تم تخفيف الحكم. وفي فترة تسخين الشارع الإيراني، جرى – سراً ودون ضجيج وافتخار – تنفيذ بعض الاغتيالات السياسية ضد قيادات الجبهة الوطنية.. التي كان قد شكلها مصدّق. وعاد الشاه محمد رضا بهلوي ليحكم إيران – حكماً ديكتاتورياً – حتى انتفض ضده الشعب في ثورة عارمة.. عام 1979، ونفضت الولايات المتحدة يدها من رجلها.. الذي كان يقوم لها بوظيفة شرطي الخليج.
بعد اثنين وسبعين عاماً من هذا التاريخ (إسقاط مصدق)، تجري أمام عيوننا محاولة لتغيير نظام الحكم في إيران، وتلعب إسرائيل دور بريطانيا.. في تحريض الولايات المتحدة على دعمها في تحقيق هذا الهدف. ومن جانبه، لا يمانع ترامب في تقويض نظام الجمهورية الإسلامية، رغم أنه سبق له التصريح – مراراً وتكراراً – بأن هدفه هو منع حيازة إيران السلاح النووي، وليس تغيير نظام حكمها.
ويعزِّز موقف ترامب.. أن السلوك الآخر الذي يزعجه من إيران – أي دعمها لحركات المقاومة المسلحة – تكفّلت إسرائيل بترويضه.. على مدى الأشهر القليلة الماضية. أما إسرائيل، فإنها ترى الأمر بشكل مختلف؛ فبعد كل محاولاتها السابقة للدخول على خط الانتفاضات الشعبية الإيرانية المتكررة، ترى اليوم الفرصة سانحة أمامها لتغيير النظام، بحكم مجموعة من نقاط الضعف الداخلية الملازمة للنظام.
ويضاف إلى ذلك، تحفُّز الترويكا الأوروبية ضد إيران، وانتقاد الوكالة الدولية للطاقة الذرية لبرنامجها النووي. أما البديل الذي تجهِّزه إسرائيل لحكم إيران – بعد إطاحة حكم رجال الدين – فهو رضا بهلوي.. الابن الأكبر للشاه الأخير الذي انتفض عليه الشعب، ولا يوجد أي مؤشر على قبوله شعبياً.
صحيح أنه توجد اختلافات كثيرة جداً بين نظامي مصدّق، وآيات الله، لكنهما يشتركان في قاسم مشترك أعظم. أما الاختلافات القائمة بينهما؛ فتكمن في أن أحدهما مدني ديمقراطي، له رؤية تنموية شاملة، ولا علاقة له بما يجري في دول جواره؛ رغم أن نموذجه الناجح كان ملهماً لدول عديدة.. منها مصر. والثاني ديني ديكتاتوري توسعي، انغمس بعمق في الشئون الداخلية لأربع عواصم عربية، وتورَّط في حروب خارجية.. لا ناقة لإيران فيها ولا جمل. لكن النظامين يشتركان في أن كلاً منهما كان يسعى لتحقيق الاستقلال الوطني لدولته عن القوى العظمي. الأول.. عن طريق تأميم ثروته النفطية، والسيطرة على الموارد الاقتصادية لدولته. والثاني.. عن طريق بناء قوته النووية، بما يمثل رادعاً ضد أي محاولة للاعتداء عليه. وأنا أقول ذلك من منطلق اقتناعي بأن إيران.. كانت تتطلّع بالفعل لامتلاك سلاح نووي، لاسيما أن إسرائيل – عدوّتها الأساسية – تمتلك هذا السلاح.
وبالتالي فإن النظرة الموضوعية لمسألة تغيير النظام الإيراني في الحالتين، تفضي إلى نتيجة مؤداها.. أنه ليس المطلوب في نظم الحكم في دول العالم الثالث، أن تكون نظماً ديمقراطية تحظى بالشعبية، لكن يُشترط لاستمرارها أن تكون نظماً منصاعة، وتابعة للقوى الكبرى. كما نستنتج أن علاقة نظم الحكم بالإرهاب.. هي مسألة حمّالة أوجه، ولدينا الدليل الناصع من سوريا.
تعطي القوى الكبرى لنفسها.. الحق في تقييم نظم الحكم في دول العالم الثالث، وتحديد أي النظم يذهب وأيها يستمر.. بشكلٍ مزاجي؛ فيتقرّر في لحظة أن يذهب حكم طالبان في أفغانستان، ثم تتغير الظروف.. فيختفي المانع من عودة طالبان للحكم. كما تعيد هذه القوى تعريف معنى العدوان على أرض الغير، فإذا بهذا العدوان يتخذ مسمَّى «التصعيد».. في بيان الدول السبع، ومع ذلك ترفض الولايات المتحدة التوقيع على البيان.
فأي عالم هذا الذي نعيش فيه؟
نقلاً عن «الأهرام»