بشير عبدالفتاح
منذ انزلاق البشر إلى أتونها قبل آلاف السنين، غدت الحروب أسرع السبل الكفيلة بتغيير القيادات وإسقاط الزعامات. ورغم الضربات الإسرائيلية الموجعة، التي تفت في عضده، وتزلزل شرعيته؛ يجنح، نتنياهو، للعدول عن مأرب يتملكه منذ عام 2003.. لإسقاط النظام الإيراني، بعدما تراءى له من صموده، وإحكام قبضته على مقاليد الأمور، وغياب البديل الفوري المناسب. وبغموضها – غير البناء، حيال التخبط الإسرائيلي بهذا الخصوص – تترقب واشنطن تحولًا نوعيًا في استراتيجيتها إزاء إيران.. والمنطقة برمتها.
فجيواستراتيجيًا، توشك إدارة ترامب، أن تتخلى عن استراتيجيتها الرامية إلى احتواء العراق وابتزاز دول الإقليم استراتيجيًا، من خلال غض الطرف عن تعاظم نفوذ إيران، وتمكين الإسلام الشيعي على حساب نظيره السني. وجيوسياسيًا، يكاد ترامب يتراجع عن تعهداته الامتناع عن تغيير الأنظمة والحكومات بالقوة؛ عبر الانعطاف من استراتيجية «تعديل سلوك وسياسات النظام الإيراني»، إلى تغيير ذلك النظام. ففي ديسمبر2016، أعلن ترامب نبذ السعي لإسقاط الأنظمة، أو التدخل في الشئون الداخلية للدول، بذريعة بناء الديمقراطية. وفي مارس2021، تعهد وزير الخارجية السابق أنتوني بلينكن، إقلاع بلاده عن إسقاط الأنظمة بالقوة؛ معتبرًا أن التدخلات السابقة كانت فاشلة، وشوهت سمعة الديمقراطية الأمريكية، وأغضبت الأمريكيين والعالم قاطبة.
من هذا المنطلق، تجاهلت واشنطن مطالب المعارضة الإيرانية بالخارج؛ سواء جناح مريم رجوي، أو جبهة رضا بهلوي – نجل الشاه المخلوع – لدعم تحركات الإيرانيين لإسقاط النظام الحالي. حيث ظلت متمسكة بنهج تغيير سلوك ذلك النظام وتعديل سياساته.. بدلًا من إسقاطه. وذلك على خلفية التداعيات المأساوية، التي استتبعها تجاوبها مع تحريض إسرائيلي مضلل لغزو العراق وإسقاط نظامه عام 2003.
على وقع العدوان الإسرائيلى الحالي على إيران، بدأت مقاربة إدارة ترامب بهذا المضمار، تخضع لمراجعات لافتة، استنادا إلى عوامل شتى؛ أبرزها: معاودة، نتنياهو إلحاحه.. المنبثق من مزاعم مزمنة، تعتبر بقاء نظام الولي الفقيه تهديدا وجوديا لبلاده، وتقويضا لاستقرار المنطقة والعالم. علاوة على انخراط طهران في مساعدة روسيا خلال حرب أوكرانيا، عبر تزويدها بالمسيرات الدقيقة والصواريخ أرض-أرض منخفضة التكلفة، لاستبقاء مخزون الصواريخ الاستراتيجية الروسية باهظة الكلفة. فضلا عن إفساح طهران المجال أمام تغلغل النفوذ الاستراتيجي للصين وروسيا في الشرق الأوسط، عبر توقيع اتفاقيتين للشراكة الاستراتيجية.. مع الأولى عام2021، ومع الثانية مطلع العالم الجاري.
رغم اعتيادها إسقاط الأنظمة وتغيير الحكومات – في فنائها الخلفي بدول أمريكا اللاتينية والكاريبي، منذ منتصف القرن التاسع عشر – كانت لواشنطن سابقة لإسقاط حكومة إيرانية منتخبة أواسط القرن الماضي. فيما اعتبره ستيفن كينزر – في سفره المعنون: «كل رجال الشاه» – أول تحرك أمريكي مباشر لإسقاط أنظمة وتغيير حكومات بالقوة.. في منطقة الشرق الأوسط. فقد قرر محمد مصدق – فور انتخابه رئيسًا لوزراء إيران عام1951 – إنهاء هيمنة الشركات البريطانية والغربية على نفط بلاده، بموازاة تقليص صلاحيات الشاه.. الموالى للغرب، حتى اختارته مجلة تايم الأمريكية في العام التالي، رجل العام.. ملقبة إياه «جورج واشنطن الإيراني»، و«الرجل الأبرز على الساحة الدولة».
بدورها، هرعت بريطانيا للاستعانة بالولايات المتحدة، التي استجابت.. بعدما رأت في مصدق تهديدا لمصالحها الاستراتيجية.. على حدود خصمها السوفياتى اللدود. كما وجدت في الإطاحة به.. فرصة لمشاطرة بريطانيا ثروات إيران النفطية. ومن خلال «العملية آجاكس» – التي قادتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بالتعاون مع نظيرتها البريطانية، وتنسيق مع الشاه – انفجرت اضطرابات أدت إلى إسقاط مصدق، وتعيين الجنرال فضل الله زاهدي رئيسًا للوزراء، وإعادة الشاه الهارب من بغداد.
يصعب الادعاء أن عمليات «تغيير» – أو«إسقاط» – الأنظمة، قد تكفل بالضرورة تحولا من نظام سياسي سيئ إلى آخر أفضل. فقد تفضي إلى إزاحة طغمة حاكمة سيئة، دون أن تأتي بأفضل منها.
وفي إيران حاليا، لا تبدو المعارضة الداخلية الهشة، مؤهلة لتقديم بديل عاجل وملائم لنظام الولي الفقيه؛ الأمر الذي من شأنه تهيئة الأجواء لوقوع انقلاب عسكري، ربما يهوي بإيران من دوامة الحكم الثيوقراطي، إلى غياهب الديكتاتورية العسكرية. أما المعارضة الخارجية – التي أمعنت في الاستقواء بأعداء إيران – فلا تحظى بقبول شعبي؛ فبالنسبة لنجل الشاه السابق رضا بهلوي، يبدي إيرانيو الداخل استياءهم من ماضي والده المرير، وكذلك علاقاته المريبة مع إسرائيل.. التي زارها قبل عامين، فيما يعكف على الالتقاء بكبار مسؤوليها فى واشنطن. إضافة إلى دعمه لسياساتها، ومطالبته بإعادة هيكلة علاقات طهران معها – وفقا لما كان يعرف في الماضي بـ«اتفاقات قورش».. أحد ملوك الفرس، الذي حرّر اليهود من السبي البابلي. وهو ما دفع إيرانيين كثر لوصمه بالخيانة.
مثلما قوبل رجل أمريكا وشريكها في مخطط تبرير غزو العراق والإطاحة بصدام حسين – زعيم ما كان يعرف بالمؤتمر الوطني العراقي، أحمد الجلبي، باستهجان شعبي واسع عام 2003 – لا يبدي إيرانيو الداخل اليوم، استعدادا لتقبل قيادات معارضة الخارج، بديلا لنظام الملالي الراهن، الذي ينقمون عليه ويطالبون بتغييره. فلقد أدانوا امتناع ولي عهد الشاه السابق، كما الحائزتين على جائزة نوبل، شرين عبادى، نرجس محمدى، وزعيم حزب العمال الشيوعي حميد تقوائي، عن إدانة العدوان الإسرائيلي الحالي على بلادهم، أو على غزة منذ الثامن من أكتوبر 2023، ورفعهم العلم الإمبراطوري القديم.
أما حركة «مجاهدي خلق»، التي طالبت زعيمتها مريم رجوي – أمام البرلمان الأوروبي – باستثمار المواجهات الراهنة لإسقاط النظام، فلا تلقى استحسان فصائل معارضة أخرى، بينما ينظر إليها إيرانيون كثر بعين الريبة.. نتيجة تأييدها صدام حسين إبان الحرب العراقية-الإيرانية (من 1980-1988)، واتهام جماعات حقوقية لها.. بارتكاب انتهاكات بمعسكراتها داخل العراق. وبينما تفتك النزاعات والخلافات بتجمعات المعارضة الإيرانية في الخارج، جددت رجوي معارضتها بقاء نظام الملالي ورفضها عودة نظام الشاه.
من غير المستبعد أن يفضي العدوان الإسرائيلي.. إلى توحيد الشعب الإيراني حول قيادته السياسية، وتأجيل المطالبة بأي إصلاح أو تغيير. ففي يوم الجمعة الماضي، تظاهر الآلاف بالعاصمة طهران.. تنديدا بالهجمات الإسرائيلية، مرددين شعارات دعم لقادتهم. ورغم تمسكها بالعمل على إنهاء نظام ولاية الفقيه والجمهورية الإسلامية.. بإرادة وطنية وآليات ديمقراطية – وليس تناغما مع مشاريع إسرائيلية-أمريكية – أعلنت القوى السياسية، التي تصنف فى خانة «عدم الولاء» لنظام ولاية الفقيه.. إدانتها الاعتداءات الإسرائيلية، داعية إلى اصطفاف وطني للدفاع عن البلاد ووحدتها وسيادتها.. في مواجهة هذا العدوان، ودعم سياسة الوحدة الوطنية.
ورغم إضعاف الهجمات الإسرائيلية المؤلمة أذرع النظام الأمنية والعسكرية، لا يبدو أنه فقد قدرته على إجهاض أية ثورة شعبية «ملونة» لإسقاطه. حيث أكد قادة قوات الباسيج، المعنية بقمع المتظاهرين، جهوزية رجاله لاستئصال عملاء إسرائيل وحماية الجمهورية الإسلامية. ولعل هذا ما يفسر خفوت تهديدات ترامب ونتنياهو بإسقاط النظام، أو استهداف المرشد خامنئي؛ مخافة أن يعتبره الإيرانيون شهيدا، ومن ثم يتوحدوا خلف نظام يمقتونه، في مواجهة العدوان الإسرائيلي-الأمريكي.
ومن ثم تنطوى مغامرة إسقاط النظام الإيراني، على مخاطر جيوسياسية جمة؛ إذ أن حدود إيران الرخوة والملتهبة – مع سبع دول جوار – قلقة، تموج بحركات انفصالية مسلحة، تهدد بتفخيخ إثني لإقليم فسيفسائي عرقيا. وإذا ما نجحت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية الراهنة.. في إزاحة نظام الولي الفقيه، فما من ضمانات لتوفير بديل ديمقراطي ليبرالي، أقل نزوعا إلى تأجيج الصراع مع إسرائيل وأمريكا، أو إحياء برامج التسليح النووية والصاروخية.
ويصطدم إلحاح نتنياهو المخادع.. لمساعدة الإيرانيين والعالم على التخلص من نظام – يراه قمعيًا وإرهابيًا – بقتله إياهم وتقويض قدراتهم الردعية، وتدمير مقدراتهم الاقتصادية. كما يثير العداء المزمن لإسرائيل تساؤلات.. حول إمكانية استنفار ما يكفي من الحراك الجماهيري للإطاحة بنظام ثيوقراطي راسخ، مدعوم بأذرع اقتصادية وأمنية تدين له بالولاء.
غالبًا ما لا تؤتي استراتيجية واشنطن لإسقاط الأنظمة – بعد دحرها عسكريًا ومحاصرتها اقتصاديًا – أكلها. فرغم قهرها نظام عبدالناصر عسكريًا عام1967، لم تفلح في إسقاطه سياسيًا. وحينما نجحت محاولات أخرى فى مجتمعات تم اختراقها – مثل العراق عام 2003 – كانت النتائج مخيبة للآمال.
أما في إيران، فقد يفضى إسقاط النظام الحالي – مع غياب بديل سريع ملائم – إلى تفكيك الدولة، بما يخلف ارتدادات جيوسياسية إقليمية ودولية مروعة. وفي هذا السياق، جاء تحذير الرئيس الفرنسى من «الفوضى العارمة»، التى يمكن أن تتمخض عنها الضغوط الأمريكية والإسرائيلية لتغيير ذلك النظام. واستشهد، ماكرون بتدخلات عسكرية أمريكية لتغيير أنظمة عربية بالقوة؛ في العراق عام 2003، ثم في ليبيا2011؛ حيث كانت التداعيات كارثية والعواقب وخيمة، محليًا، إقليميًا ودوليًا.
نقلاً عن «الشروق»