عبدالله السناوي
لم يخطر ببال دونالد ترامب.. أن يتعرَّض فريقه للأمن القومي لانتقادات حادة وموثقة.. أخطر وأفدح مما دأب على توجيهها لوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون.. بمناسبة أو دون مناسبة.
في المرتين جرى خرق خطير في إجراءات سلامة المراسلات السرية. مرة بانتهاك القواعد الصارمة لمراسلات وزارة الخارجية.. باستخدام خادم خاص للبريد الإلكتروني، بدلاً من الحسابات المؤمَّنة. ومرة ثانية بضم صحفي.. إلى مجموعة من كبار مسؤولي البيت الأبيض؛ بينهم نائب الرئيس جيه دي فانس، ومستشار الأمن القومي مايك والتز، ووزير الدفاع بيت هيجسيث، ومدير وكالة المخابرات المركزية جون راتكليف، ومديرة المخابرات الوطنية تولسي جابارد.. في قناة غير مَّؤمنة على تطبيق سيجنال، لمتابعة ترتيبات عملية عسكرية.. توشك أن تبدأ ضد قواعد حوثية باليمن.
قيل بالتواتر، إن ذلك تم بالمصادفة والسهو!
بعيداً عن نظرية الصدفة يصح السؤال التالي: لماذا جيفري جولدبيرج، رئيس تحرير مجلة «ذا أتلانتيك»، بالذات؟!
حسب التصريحات المتواترة لكبار المسؤولين الأمريكيين – بمن فيهم ترامب – فإن ضمَّه جرى بالصدفة دون قصد. هذه محض فرضية.. غير مقنعة، وغير متماسكة، يفندها سجل جولدبيرج.
… فهو مزدوج الجنسية، أمريكي وإسرائيلي. عمل مطلع حياته ضابطاً بالجيش الإسرائيلي، وخدم لفترة في سجون الدولة العبرية. بدأ عمله الصحفي بصحيفة «جيروزاليم بوست»، قبل أن يعود للولايات المتحدة صحفياً بـ «واشنطن بوست».. حتى استقر به المقام في «ذا أتلانتيك».
وجد «جولدبيرج» أمامه سبقاً صحفياً.. لم يتردد في نشره، وتحمُّل مسؤوليته، انحاز إلى مهنته.. فوق أي اعتبار آخر. في البداية، وصف طبيعة المعلومات المتداولة.. دون الخوض في التفاصيل الدقيقة.
عندما كذبت التصريحات الرسمية، محتوى تسريبات «سيجنال»، قرر إطلاع الجمهور على النصوص الكاملة، ليعرف نوع المعلومات.. التي تم تداولها عبر قنوات غير آمنة.
أجرى مراجعات قانونية – قبل نشر النصوص – لحساسيتها المفرطة. وتواصل مع مختلف مؤسسات إدارة ترامب، سائلاً إذا ما كانوا يعارضون نشرها؟
لم يرد أحد.. باستثناء السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، التي قالت عبر البريد الإلكتروني: «كانت هذه محادثة داخلية وخاصة، نوقشت فيها معلومات حساسة.. نعم نحن نعارض النشر».
لم تحدد ما هي الأجزاء الحساسة، أو كيف يمكن نشرها.. بعد مرور أكثر من أسبوع على الغارات الأمريكية؟ كان ذلك كافياً – قانونياً ومهنياً – ليستقر عزمه على النشر. لم يدع «الخبطة الصحفية الكبرى» تفلت من يده. وبانحيازه إلى مهنته، تحوَّل من صحفي شبه مجهول.. في الولايات المتحدة، إلى صحفي ذائع الصيت في العالم بأسره.
بدأت التساؤلات تطرح نفسها.. على الرأي العام الأمريكي: مَن يدفع الثمن؟
طالت الانتقادات رجلين بالذات، ووضعت مستقبليهما السياسي بين قوسين كبيرين.
الأول: وزير الدفاع «هيجسيث»، الذي يفتقد أية خبرة عسكرية تؤهله لهذا المنصب. كل مؤهلاته أنه عمل لفترة ضابطاً في الحرس الوطني، ويقدم برامج على شبكة «فوكس نيوز» اليمينية، التي دأبت على دعم وتأييد «ترامب». أعادت فضيحة تسريبات «سيجنال» طرح سؤال صلاحيته من جديد.
في بداية الأزمة قال حرفياً: «لم يرسل أحد خطط حرب عبر الرسائل النصية.. هذا كل ما لديَّ لأقوله».
بتصاعد الحملات السياسية داخل مجلسي الكونجرس – التي قادها الحزب الديمقراطي – زادت حدة تعليقاته سباً وشتماً، وتقليلاً من القيمة المهنية لرئيس تحرير «ذا أتلانتيك».. «المضلل»، و«غير الموثوق به». وبدا ذلك انفلاتاً بالأعصاب، وعجزاً – بالوقت نفسه – عن تسويغ التسريبات، التي كان من الممكن أن تُفضي إلى الإضرار البالغ بالأمن القومي الأمريكي، وتعريض حياة الطيارين للخطر.
في المحادثات المسرَّبة، أعلن وزير الدفاع توقيت إقلاع الطائرات الحربية.. لتنفيذ ضربات محددة باليمن. قال: «إنها لم تكن خطة حرب، والتفاصيل لم ترقَ إلى مستوى خطة حرب».. لكنها كانت كافية لتعريض العملية كلها للفشل، قبل أن تصل الطائرات إلى أهدافها.
والثاني: مستشار الأمن القومي «والتز»، الذي أعلن تحمُّله مسؤولية التسريب، مرجحاً أن يكون قد ضُم «جولدبيرج» إلى مجموعة المراسلة.. بالخطأ. كان ذلك نصف اعتراف، ونصف تحمُّل للمسؤولية. نفى أن يكون على صلة سابقة به، أو أنه يعرفه شخصياً: «أعرفه فقط من خلال سمعته، وهي مريعة».
… حسب «ترامب»، فإنه ربما كان هناك شخص يعمل لدى مستشار الأمن القومي، أضاف الصحفي إلى مجموعة .. على تطبيق سيجنال.إنها الفوضى الضاربة.. في مركز صناعة القرار.
شخص ما يضيف اسماً بعينه إلى مجموعة نقاش سرية للغاية دون مراجعة لقيادته، أو التزام بأية قواعد تضمن سلامة قناة الاتصال.. حتى لا يتهدد الأمن القومي لأية أزمات مع حلفاء مفترضين.
وفقاً لـ«جولدبيرج»، فإن أحد المشاركين بالمحادثة السرية.. قال: «على الولايات المتحدة توضيح توقعاتها لمصر وأوروبا»؛ قاصداً.. الثمن الذي يجب دفعه، نظير عودة الملاحة الطبيعية إلى البحر الأحمر وقناة السويس. الكلام برسائله.. إنذار صريح، لما قد يحدث بعد وقت أو آخر.
أوروبا انزعجت من الإشارة، ومصر تحتاج إلى أن تتنبَّه.
لم يُشر المتحدث إلى إسرائيل.. التي تتهددها الصواريخ الباليستية الحوثية.
إنها خارج كل حساب؛ فأمريكا تخوض الحرب بالنيابة عن إسرائيل.. أمنها ومصالحها، وتغولها على المنطقة كلها.
ما حدود التغيير المحتمل في الإدارة الأمريكية؟
التغيير في الوجوه محتمل، لكنه ليس مؤكداً.. بفائض غالبية مجلسي الكونجرس، حتى لا يبدو «ترامب» مهزوزاً.. أمام حملات الحزب الديمقراطي.
«الرئيس لا يزال داعماً لفريقه للأمن القومي». كان ذلك تصريحاً موحياً بحدود الحركة والتغيير؛ الحساب والعقاب.
… في كل الأحوال، سوف يُدفع الثمن من هيبة «ترامب»، والثقة العامة في صلاحية إدارته وكفاءتها.
نقلاً عن «الشروق»