Times of Egypt

ترويع وصوفية زائفة

M.Adam

وجيه وهبة

نشرت إحدى الفتيات على وسائل التواصل الاجتماعي، بالصوت والصورة، مقطعاً يبين ما حدث لها في المترو، وذلك حين احتج رجل مُسن معمَّم.. على طريقة جلوسها بوضع «رجل على رجل». احتجاج الرجل – كما ظهر في المقطع المنشور – يكشف عن عدوانية شرسة؛ تجلت فيما صدر عنه، من عنف لفظي، وإيماءات جسدية، ونبرة صوت عالٍ، وحدَّة أداء.. فضلاً عن الدق بعصاه على الأرض بشدة، وبدا الرجل كأنما هو مكلف بضبط سلوك الناس في المجال العام، وفقاً لمقاييسه ومزاجه الخاص، منتحلاً ومبتدعاً لنفسه سلطة لا يقرها له القانون، كما لا تقرها له أعراف وسلوكيات «نخوة الرجولة». ولا شك أن ما فعله الرجل يمثل ترويعاً واضحاً وصريحاً للفتاة.

فور انتشار المقطع، أسرعت وسائل الإعلام.. لإجراء لقاءات مع «الجاني»! وكنا نظن أن الشرطة هي من كان يجب عليها أن تسرع لإلقاء القبض عليه.. بتهمة «ترويع» الآخرين والتحرش بهم في مكان عام. ولا ندري ما الحكمة الإعلامية في «تنجيم» شخص يمارس ذكورية ممجوجة.. على فتاة لم ترتكب جرماً، ولم تخالف القانون، ولم تسلك سلوكاً معوجاً، إلا في نظر هذا «الدّكَر» وأمثاله من المتطفلين المتسلطين. فماذا نجني من لقاءات إعلامية مع أمثال هؤلاء؟ ومع ذلك، فإن اللقاءات الإعلامية مع الرجل.. قد أظهرت إمعانه في الغي، بدلاً من أن يُبدي اعتذاره عما ارتكبه.

مع كرِّ الأيام والأحداث، ورصد الحوادث والمآسي التي تتعرَّض لها المرأة المصرية، يتبدَّى لنا، في وضوح، مجتمع يخطو حثيثاً – وبتسارع – نحو تعزيز «ذكورية».. موغلة في غيها، تدفع بالبلاد والعباد نحو مزيد من التخلف، على حساب كل قيم الحداثة والعدالة والإنسانية. وبالطبع – كما هو الحال في كافة المجتمعات المتخلفة – يمضي هذا الإيغال في الظلم.. تحت راية العادات والتقاليد تارة، وتحت عباءة الدين تارة أخرى.

احترام الكبير واجب، ولكن ليس على حساب مخالفة القوانين والسلوك القويم، فكبر السن.. ليس رخصة تبيح التجاوز، والتعدي على الآخرين بلا حساب، لكنه قد يكون – في بعض الأحيان – سبباً للعفو أو لتخفيف العقوبة.

لم ألحظ أن هناك تعاطفاً قوياً وفعالاً مع «فتاة المترو»، إلا ما قامت به الحقوقية الشجاعة الأستاذة «نهاد أبوالقمصان».. من دعمها للفتاة وشجبها لما ارتكبه المُسن في حقها، وبما أوضحته عن الموقف القانوني، الذي لا يُحسد عليه هذا الرجل. ولأن «شر البلية ما يضحك»، فقد طلع علينا نجل المذكور – في مداخلة تليفونية مع مذيعة تليفزيونية – لم تُخفِ تحيزها المقيت للرجل المُسن!! – طلع نجل هذا الرجل، لا ليدافع عن أبيه، ويلتمس له الأعذار ويعتذر عما اقترفه.. وهذا واجبه كابن. بل ليزايد، ويطالب الفتاة بالاعتذار لوالده.. أي يطالب بأن تعتذر الضحية للجاني!!

وفي مداخلته التليفونية، ألمح نجل المذكور إلى أن والده متدين.. صوفي النزعة، كما ظهر على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع لحضرة ذكر «صوفية».. يقودها الرجل. والمقارنة بين المشهدين – مشهد «المترو» ومشهد «الحضرة الصوفية» – تكشف لنا مدى التناقض لدى بطل المشهدين، فالنفس الصوفية الحقيقية تتسامى عن كل صغائر الحياة؛ لا تتسلط، ولا تدس أنفها فيما لا يعنيها. ولا يعنيها من «يضع رجلاً على رجل»، أو من يجلس مربع اليدين.. متحلياً بـ«أدب القرود». 

فأي صوفية تلك التي تجلت أمامنا في هذا السلوك الخشن المغرور.. تجاه فتاة صغيرة؟ إنها قطعاً «صوفية مظهرية كاذبة». وما أغرب صوفية زماننا هذا، صوفية عمائم وأزياء «فاشينستا» وأقرانه.. أساتذة «التحنيك». وما أروع الشيخ «علي عبدالرازق» حين قال: «الجاهل الوضيع.. لن يغير من جهله وحقارته عمة كالبرج، ولا أكمام كالخرج».

في ظل المناخ والمزاج الذكوري السائد، يمكن تفهُّم سكوت الفتاة الضحية، وتنازلها عن حقها، وعدم مطالبتها بتطبيق القانون على من تجاوز معها. لكن ألا يجب أن ننظر للمسألة من زاوية «حق المجتمع».. في ردع من تسول له نفسه، فيتصور أنه وصي على سلوك الآخرين؟ إنها حقاً لمهزلة، هذه الثقة المفرطة في الذات لدى البعض من المتطفلين المتسلطين، ثقة مَرضية بلغت حد الاعتقاد بالحق في التفتيش على تربية الناس في وسائل المواصلات والأماكن العامة!

تمثل التعليقات على مقطع «فتاة المترو».. مادة غنية للتحليل الاجتماعي والنفسي. فنحن – وقد انتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين – نكتشف أن معظم التعليقات تعبر عن نظرة دونية للمرأة، فبدون تقصٍّ، ودون دخول في تفاصيل الواقعة، وبدلاً من استنكار ما فعله الرجل المُسن، يتم لوم وإدانة الفتاة الضحية.. وكيل الاتهامات لها. ونظن أن ذلك يتم وفقاً لثقافة تعتقد اعتقاداً جازماً أن النساء «ناقصات عقل ودين».

كثيراً ما تكون كاميرا الموبايل.. وسيلة لحفظ الحقوق القانونية، والحض على إنزال العقاب المجتمعي على من تعدَّى على تلك الحقوق. وهذا ما فعلته الفتاة، سجلت ما فعله المتجاوز في حقها، ثم نشرت ما سجلته لتفضح فعلته النكراء، وتفضح معه مجتمعاً «شوفيني» النزعة الذكورية، مزيفاً ومزدوج المعايير. مجتمع شعارات، يتحدث عن الحقوق والحريات، لكنه يتعامل مع تلك الحقوق كشعارات، وإكسسوارات وديكورات.. لتحسين الصورة لا لتغيير الواقع.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة