Times of Egypt

تدمير الذات

M.Adam
أحمد الجمال

أحمد الجمال

استبدَّت بي رغبة جارفة.. أن أقبض الموضوع بسخرية، وتمنيت لو امتلكت قدرة الساخر الأكبر محمود السعدني – الذي أرسى قواعد التمييز بين الكاتب الساخر، وبين الكاتب المسخرة – لأن الموضوع أصبح بالياً مستهلكاً.. يعاد إنتاج مضامينه وألفاظه بفجاجة، ولأن الذين يعيدون الإنتاج، لا يملكون – في معظم الأحيان – قدرات أصحاب النسخة الأصلية، الذين كان بعضهم لديه مسوغات ذاتية حقيقية لما يكتب.

وذهبت بي تلك الرغبة إلى استدعاء فيلم للموهوب الفنان إسماعيل يس، ضمن سلسلة الأفلام التي حملت اسمه، والجهات التي اختارها ليكون فيها؛ مثل إسماعيل يس في الأسطول.. وفي السجن.. وفي البوليس.. وأيضاً في مستشفى المجانين. وهذا الأخير كان فيه ممثلٌ ثقيل الوزن، خفيف الظل، اسمه «حسن أتلة».. ظهر في أحد مشاهد الفيلم، وهو يحاصر إسماعيل يس بسؤال عن.. هل هو لطفي؟! لينفي يس مرة تلو المرة، وينكمش خوفاً من ذلك المجنون.. الذي أراد أن يفسر حالته، فأخرج الصاجات وثبتها في أصابعه وبدأ يصيح: «أصل أنا عندي شعرة.. ساعة تروح وساعة تيجي». 

… ولكي يجبر إسماعيل على تصديقه، وترديد ما يقول، يصيح فيه «هييه». وهو مشهد يجسد من لديهم شعرة، تجعلهم يرددون ما استُهلك.. من هجوم غير موضوعي على جمال عبد الناصر. شعرة.. ساعة تروح وساعة تيجي.. على النحو الذي نتابعه في صحف، أضحت تقبل تقديم وجبات.. أُكلت ولُفظت.. مئات – إن لم يكن آلاف – المرات.

ولن أسترسل في سياق السخرية، لأن الأمر – رغم مَساخته – يتصل بتاريخ مصر، ووجدان شعبها.. بأكثر مما يتصل بحقبة معينة، وزعيم بذاته.

وعلى طريقة رواة السير الشعبية؛ فأول ما نبدي القول.. نقول: إننا أمام عيِّنة تملك الشجاعة والجسارة.. أمام – وعند – القبور، وتعتز وتتباهى.. بالخنوع والجبن والنفاق.. أمام القصور. ثم نقول: إن لكل ظاهرة سبباً وتفسيراً. وقد سعيت إلى المصادر والمراجع.. لعلي أجد ما قد يفيد؛ ومما وجدت – وكنت قد وعدت في مقال سابق بذكره – ما جاء في موسوعة علم النفس والتحليل النفسي تحت مادة: «تدمير الذات –  Self Destruction»، وتعريفه: «درجة شديدة من عقاب الذات، تجعل الفرد يلتمس الوسائل المباشرة – وغير المباشرة – لتدمير ذاته، أو الإضرار بها ضرراً بالغاً، ويقوم على المستوى اللاشعوري غالباً».

وتضرب الموسوعة أمثلة عديدة.. على من يعاقبون ذواتهم؛ مثل من يلعبون القمار، أو يهربون من الدارسة والتعليم، لتستطرد في نصها: «وفي مثل هذه الحالات، يُنصِّب الفرد من نفسه عدواً لها، يريد تدميرها والقضاء عليها، ويأتي من النشاط والسلوك والأفعال.. ما يحقق له هذا، دون أن يعي – في غالبية الأحوال – نزعته تلك.. لتدمير ذاته، بل يتجاهلها، ويرجعها إلى الظروف السيئة، والحظ العثر.. اللذين يلازمانه».

وبعد ذلك نصل إلى مربط الفرس.. في الحالة التي أتحدث عنها، إذ تقول الموسوعة: «هذا، ويشمل تدمير الذات أيضاً.. التدمير المعنوي لها؛ فكثيراً ما نجد بعض الناجحين، وذوي الإنتاج العلمي المتميز.. من العلماء والباحثين، يتورطون في سرقات علمية، يختمون بها حياتهم المهنية؛ فتلوك سمعتهم الألسن والصحف، وكأنهم قصدوا – لا شعورياً – إلى تدمير حياتهم وسمعتهم العلمية.. بمثل هذه السرقات، التي كانوا أصلاً في غنى عنها. وبالمثل أيضاً، نجد بعضاً من كبار موظفي الدولة وأثريائها – الذين ليسوا في حاجة مالية.. ومن يعدون من رجالاتها البارزين المعدودين – وقد امتدت أيديهم للرشاوى والاختلاسات والاختلاقات الكاذبة، وأوجه الفساد التي تذهب بسمعتهم وكرامتهم إلى غير رجعة. ويرى فرويد والمحللون النفسيون.. أن هذه النزعة إلى تدمير الذات، راجعة أساساً إلى أن الفرد يوجه جزءاً من غريزة العدوان عنده.. إلى ذاته، وأنه كلما استعصى توجيه العدوان إلى الخارج، ارتد إلى الذات واتجه إليها، عاملاً على تدميرها.. كالطفل عندما يغضب، ولا يستطيع توجيه عدوانه إلى من أغضبه، فيضرب رأسه في الحائط أو على الأرض.. حتى يدميها. ومن الجدير بالذكر، أن كثيراً من مظاهر الاكتئاب والانقباض، وأعراض جنون الاضطهاد، ينتهي التحليل النفسي لها.. إلى الرغبة في تدمير الذات، التي قد تصل إلى حد الانتحار الفعلي».

انتهى نص الموسوعة، لنبدأ القول – مجدداً – ونتساءل حول موظف كبير في دولة، شغل منصباً مرموقاً، واحتل الكرسي لعقد من الزمان، ليحتل بعده كرسياً آخر.. له الأهمية نفسها أو أعلى منها، يكتب مذكراته.. فيضبط متلبساً بالكذب والتزوير – بالكلمة والصورة – حيث نسب لنفسه إنجازاً خارجياً مهماً.. يتصل بديون بلده لدولة عظمى، وهو يعلم – علم اليقين – أن أحداً غيره.. هو من أنجزه. ثم ينشر صورة في المذكرات نفسها، ليزيف مناسبتها.. ثم يسخر من صاحب فضل عليه، ويزدري طريقة ملبسه، وهو يعلم أنه لم يكن ليجرؤ على ذلك، لأن الذي ازدرى ملبسه، هو من ساعد على تعيينه في منصبه. ولأن ذلك الرجل توفاه الله، وترك أثراً؛ بل آثاراً إيجابية عظيمة.. في عقول وأنفس كثرة كاثرة، فإن الشجاعة والجسارة أمام القبور.. تجلّت. وربما هي – حسب موسوعة علم النفس – عملية تدمير للذات.

وسوف أواصل الحديث في الموضوع.. محاولاً تجنب الإشارة لما أنا واثق منه، وهو الأجندة مدفوعة الأجر.

وللحديث صلة.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة