عبدالله السناوي
عند ذروة أزمته العاصفة، نشر على «إنستجرام» صورة غامضة لأشجار خريفية.. وقد تساقطت أوراقها. أراد أن يقول إنه مستعد لأن يغادر ليفربول الآن، وأنه لن يعتذر مهما كانت الضغوط عليه.
رغم تجاوز حدة الأزمة، فإن ظلالها ما زالت ماثلة، وأسئلتها الرئيسية تأجلت الإجابات عنها إلى ما بعد عودته من بطولة الأمم الأفريقية (2025) بالمغرب.
هل أخطأ في نقل أزمته مع مدربه «أرني سلوت».. إلى العلن، مخترقاً قواعد الاحتراف المفترضة؟ أم أنه قصد كل حرف قاله.. حتى لا يتحمل وحده مسؤولية التراجع الكارثي في مستوى الفريق، أو أن يكون كبش فداء لأخطاء غيره؟
تعددت الإجابات، وتداخلت الاعتبارات السياسية.. في المشهد الرياضي العالمي.
كانت ردة الفعل المصرية شبه إجماعية على نصرة «محمد صلاح».. «ابننا»، كما يوصف عادة. وفي الوقت نفسه، تبدَّت أصوات تشمت فيه، لأسباب أيديولوجية وتنظيمية.
نُسبت إليه تُهم، بعضها يستحق التوقف عنده بالنقاش والاستبيان.. لما يقدر عليه وما لا يقدر؛ مثل موقفه من قضية غزة، وبعضها الآخر لا يستحق أدنى التفات، مثل الاحتفال بالكريسماس، والعزاء في رحيل ملكة بريطانيا «إليزابيث الثانية»!
إنها حالة ترصُّد لاغتياله معنوياً.. بصورة غير مسبوقة من الكراهية المعلنة، دون سبب مقنع أو متماسك، سوى أنه لم يلتحق تنظيمياً بهم.
هناك فارق جوهري.. بين أن تعاتب وتنتقد، وبين أن تمعن في الكراهية.. دون استبيان أو إنصاف.
السؤال الجوهري هنا: لماذا تقف الأغلبية الساحقة من المصريين في صفه، إلى درجة مقاطعة مباريات ليفربول، التي دأبت المقاهي والمنتديات العامة على بثها، كما رصدت فضائيات ووكالات أنباء دولية؟
في الحالتين المتتاليتين؛ المقاطعة، ثم العودة.. عندما بدا أن الأزمة أوشكت على الانقضاء، تأكدت معانٍ ورسائل.
ظاهرتُه تحتاج إلى دراسات وبحوث ميدانية وموضوعية.. في علوم النفس والاجتماع والسياسة؛ تنظر في أسبابها العميقة، التي جعلت ممكناً القول إنه.. «لا يوجد شيء آخر يبهج ويوحد المصريين.. غيره».
هذا القول الشائع ينطوي على رسالتين متناقضتين: الأولى إيجابية.. من زاوية الاعتزاز الوطني بأي إنجاز على مستوى دولي – علمي أو دبلوماسي أو أدبي أو فني أو رياضي – يحققه مواطنون.. لديهم الموهبة والكفاءة والقدرة على الإبداع. والثانية سلبية.. من زاوية الشعور بأنه لا يوجد شيء آخر يبهج، أو يوحد، أو يعطي أملاً بالمستقبل.
لا يصح تحميل «صلاح» فوق طاقته، أو تسييس ظاهرتِه.. خارج طبيعتها الأصلية؛ فهو – في البدء والمنتهى – لاعب كرة قدم، تمكن من إحراز مكانة متقدمة في اللعبة الأكثر شعبية.. بموهبته، والعمل على تطوير قدراته.
قبل أن تنجلي حقائق ما يجري في كواليس ليفربول، بدا الانحياز الشعبي واضحاً. وحسب ما هو ظاهر، فإنه اخترق قواعد الاحتراف، بالاعتراض على جلوسه ثلاث مباريات متتالية.. على دكة البدلاء.
هذا شأن المدير الفني وحده، والأزمة تُدار في غرفة الملابس.. لا خارجها. النقد صحيح في عمومه، وإلا أفلتت أي سيطرة على اللاعبين، لكن ما حدث كان شيئاً آخر.
حسب ما بدأ يتسرب من الغرف المغلقة، فإنه كان يدافع عن إرثه.. حتى لا يخرج من الباب الخلفي، كأنه لم يكن صاحب الفضل الأول في إكساب ليفربول مكانته.. كواحد من أقوى الفرق الأوروبية.
وباعتراف «يورجن كلوب» – مديره الفني السابق – «إنه واحد من أعظم اللاعبين على مر العصور».
من حق «صلاح» – كنجم فوق العادة – أن يبرئ نفسه أمام جمهوره، ويكشف بعض ما يجري في الكواليس، كعدم الوفاء بالوعود.. التي قُطعت له عند تجديد عقده العام الماضي.
عبَّر عن إحباطه قائلاً: «أشعر كما لو أُلقي بي تحت الحافلة». ثم ألمح إلى أن هناك شخصاً ما.. وراء تصعيد الأزمة.
لم يقصد المدير الفني «سلوت»؛ فهو واجهة قرار تهميشه، وليس صاحبه. قصد مباشرة المدير الرياضي «ريتشارد هيوز»، ومن خلفه «مايكل إدواردز»، الرئيس التنفيذي لكرة القدم في مجموعة «فينواي» الرياضية المالكة للنادي.
إنهما مركزا النفوذ والتأثير داخل ليفربول، اللذان تمكنا من إطاحة المدير الفني السابق «كلوب»، الذي لم يذعن للاستراتيجية التي أرادا فرضها.
بدا تهميش «صلاح» مقصوداً لهدفين؛ الأول: تحميله مسؤولية تراجع النتائج، وإعفاء «سلوت» من أي مسؤولية. تراجع فعلاً مستواه هذا الموسم، لكنه لم يكن وحده.
والثاني: إسناد فشل صفقات «الميركاتو الصيفي» إليه، وقد كلفت خزينة النادي أكثر من نصف مليار دولار، كأن من مهامه.. وضع الخطط، وتوظيف الإمكانيات والمواهب التي جُلبت.
كانت تلك رسالة إلى جمهوره تمهيداً لبيعه في «الميركاتو الشتوي».. يناير المقبل، حتى لا تكون هناك أية ردة فعل غاضبة.
حسب تسريبات غير مؤكدة، جرت اتصالات مع أندية سعودية.. دون إخطار وكيل أعماله، كما تقضي أصول الاحتراف.
لم يتجاوز «صلاح» أصول الاحتراف، لكن غيره فعل ذلك.
هكذا بدت كل أطراف الأزمة في مأزق محكم، وليس «صلاح» وحده. هذه حقيقة يصعب إنكارها.
وهو يريد أن يخرج من الباب الكبير، مكرَّماً ومعزَّزاً، لا مُهاناً أو مُهمشاً. وهذه حقيقة أخرى.
ترددت استنتاجات عن دوافع عنصرية.. في معاملته دون الاحترام الذي يستحقه؛ ترتيباً على إرث التاريخ المرير للإمبراطورية البريطانية السابقة.
هذه المسألة بالذات تستحق دراسة أعمق.. لظاهرتِه في المجتمع البريطاني، وحدودها في تغيير الصور النمطية عن العالم العربي، ومصر بالذات.
ومما لا يمكن تجاهله.. إنتاج أغنية جديدة من جمهور ليفربول؛ تنحاز إليه، وتتبنى موقفه. ليفربول هي مدينة «البيتلز»، وقد عبَّرت عن موقفها بالغناء.
وسط ضجيج المساجلات حول مستقبله، رشحته هيئة الإذاعة البريطانية.. لنيل شخصية العام الرياضية (2025)، وكان ذلك تكريماً مستحقاً في وقت أزمة عاصفة.
نقلاً عن «الشروق»