محمد أبوالغار
في مدرسة الإبراهيمية الثانوية – وكان عمري 13 عاماً – سألني أحد الطلاب في الفسحة: لماذا لم أحضر للصلاة معهم؟ واستمر هذا الطالب يكرر الطلب، حتى ذهبت في الفسحة.. وأديت الصلاة مع حوالي عشرة طلاب. وطلب مني أن أجلس دقائق، ثم قال إننا سوف نكون خلية من 5 أفراد نتجمع ونتناقش، وغادرت وليس في نيتي العودة.
حدثت بعدها أحداث جسام – بين الإخوان المسلمين ونظام الثورة -0 وتم القبض على زعمائهم. وبعد بضعة أيام، وكنت على السلم متجهاً إلى الحوش، وضع تلميذ ورقة في جيبي.. واختفى بسرعة. وذهبت إلى دورة المياه وأخرجت الورقة، فوجدت منشوراً من الإخوان، مزقته. ومن يومها لم تحدث محاولات أخرى لضمي.
في حياتي الجامعية، كان لي نشاط مجتمعي وثقافي ورياضي. تقاطعت حياتي مع مجموعات من الإخوان في كل مرحلة وكان الخلاف واضحاً والمواقف مختلفة بيننا، ولكن لم تحدث أبداً خناقة أو تراشق بالألفاظ، بل كان الاختلاف باحترام.
وحيث إن الكثير من الإخوان في السجون الآن، فلا أريد الخوض في الأسباب الجوهرية لخلافي معهم، ولكني أذكر حادثة قد تبدو فكاهية. كان هناك احتفال أيام ثورة 25 يناير – في خيمة كبيرة، يحضره جميع أطياف العمل السياسي – وخرجت من القاعة لأشم شوية هواء.. فوجدت مجموعة تتحدث في الهواء الطلق، منهم أحد أهم كبار زعماء الإخوان. وحكيت للزعيم الإخواني ما حدث لي حين كان عمري 13 عاماً، وكيف حاول الإخوان تجنيدي وفشلوا، وكنت أحكيها كنكتة، ففوجئت بالقائد الإخواني الكبير يأخذ الموضوع بجدية شديدة.. قائلاً: إن الإخوان عندهم بُعد نظر وقدرة على اختيار القيادات المستقبلية، ولو كانت الظروف السياسية سمحت، لكنت أصبحت نجماً الآن في مكتب الإرشاد.
وقال إنني خسرت الكثير بعدم انضمامي. وأجبته بأن أفكاري مختلفة تماماً عن الإخوان، فسأل: ما وجه الاختلاف؟، فقلت إنني أحب التفكير المستقل، وموضوع الطاعة العمياء لا ينفع معي. فقال: لقد خرجت عن طوعنا بسبب الظروف السياسية، فقلت أنا لم أدخل أبداً في طوعكم. وضحك الجميع.
وفي فترة الجامعة، انضم الكثير من الشباب لجماعة الإخوان، وانضمت الأغلبية إلى منظمة الشباب الاشتراكي، وبقي قلة.. أنتمي لهم، لا يجدون تنظيماً يعبر عن أفكارهم، وهي: الحرية والديمقراطية الاجتماعية والاهتمام بالثقافة بجميع جوانبها.
وجدت جانباً من ذلك في بيتنا. كان أبي مديراً لبنك، وأيامها لم يكن مديرو البنوك مليونيرات بل كانوا ينتمون إلى شريحة عليا في الطبقة الوسطى. تخرج في مدرسة التجارة العليا (كلية التجارة)، وكان يعمل ويتحدث ويلقي محاضرات لموظفي البنوك الأفارقة بالإنجليزية والفرنسية، وهو ابن مدرسة المساعي المشكورة بشبين الكوم، ولم يدخل مدرسة أجنبية.. يعطينا ذلك فكرة عن مستوى التعليم. كان أبي مثقفاً عاماً.. يقرأ الصحف والمجلات المختلفة، وأيضاً بعض الكتب، ولكن لم يكن موسوعياً في قراءة الأدب والتاريخ. وكان مشغولاً بالعمل طوال الوقت.
أمي تعلمت تعليماً متوسطاً، ولم تكن تعمل ولا تجيد لغات، لكنها تعلمت العزف على البيانو، وقراءة النوتة الموسيقية على يد مدرس إيطالي، وكانت تعزف يومياً ونلتف حولها. وتعلمت الخياطة بالباترونات على مستوى عال.. من مُدرسة يونانية، فكانت تفصل أعظم الفساتين، وكانت تقرأ الروايات. وكانت العائلة تذهب إلى السينما والمسرح بانتظام شديد.
أيام المدرسة، بدأت القراءة من مكتبة أبي الصغيرة، وكانت أول رواية أقرأها هي «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم، وكنت أقرأ الصحف والمجلات التي كانت تحوي مادة ثقافية، وكان والدي يقابل أصدقاءه يوم الجمعة في كازينو أوبرا في ميدان الأوبرا. وكنت أذهب معه، وأتركه مع أصدقائه.. وأنزل إلى الشارع وأعبر إلى سور الأزبكية، الذي كان عامراً بالكتب القديمة والمستعملة، وكانت أسعارها زهيدة ولا تتجاوز الكتب التي كنت أريد قراءتها 5 إلى 10 قروش.
وحين كان عمري 16 عاماً – في بداية دراستي للطب – تتلمذنا على يد د. حسين فوزي.. المثقف الموسوعي والفنان المتذوق للموسيقى، وكان مسؤولاً ثقافياً في مبنى الفنون – الذي احتل قصر هدى شعراوي – حيث تلقينا على يديه تذوق الموسيقى العالمية، والفن التشكيلي العالمي، والأفكار الحديثة في الدنيا، وطريقة الحياة الأوروبية، ونمط الحياة. قرأت «سندباد» حسين فوزي في مرحلة لاحقة.
الشخص الآخر الذي أثر فيّ تأثيراً ضخماً – بالرغم من أنني لم أقابله أبداً – هو سلامة موسى. تعرفت عليه عن طريق كتبه.. التي اقتنيتها الواحد تلو الآخر. وكان أول كتاب قرأته له هو حرية الفكر في التاريخ، الذي أخرجني من العالم المحلي الضيق.. إلى العالم الأوسع، وتعرفت على رموز الحرية في تاريخ البشرية، وأصبحت الحرية شيئاً ملتصقاً بي وموجوداً في أعماقي، ومن يومها وأنا لا أتفق مع أي شيء أو نظام أو قانون يقف أمام حرية الإنسان.
قرأت مبكراً.. كتاب الاشتراكية لسلامة موسى، وكان قد التحق بالفكر الماركسي، ثم انتقل إلى الأفكار الفابية البريطانية.. التي تدعو إلى الديمقراطية الاجتماعية المطبقة الآن في أوروبا الغربية. تأثرت بشدة برأيه في المرأة وحريتها، واشتراكها الكامل في المجتمع. وعرّفني على مشاهير مثل غاندي وبرناردشو. وقدم لنا نظرية التطور لداروين، وشرحها بالتفصيل مما شجعني على الاهتمام بالتفكير العلمي.
وحديثاً، كنت أشاهد حواراً تلفزيونياً لنجيب محفوظ، أشاد فيه بسلامة موسى، وقال إنه أول شخص نشر له عملاً روائياً. فكنا نقرأ – في السنتين الثانية والثالثة الثانوي – روايات أجنبية ضخمة وشهيرة من الأدب العالمي. شجعنا على القراءة باللغة الإنجليزية.
هذه كانت البذور الأولى في التعليم المدرسي والجامعي، وكان عدد الطلاب والجو العلمي.. يساعدان على حب العلم والمعرفة، ولم يمنعنا ذلك من الثقافة المقروءة، التي صاحبتها زيارة مستمرة للمسارح والسينمات والمحاضرات العامة، وبعدها دخلنا الحياة العلمية كأطباء شبان، ولكن مصر بدأت الدخول في مراحل سياسية صعبة.. انتهت بهزيمة 1967، التي قصمت وسطنا تماماً.
«قوم يا مصري مصر دائماً بتناديك»
نقلاً عن «المصري اليوم»