أحمد الجمال
عشنا أياماً، تسلَّط على عقولنا فيها.. مَن هوايتهم وحرفتهم العكننة على خلق الله – عمال على بطال -أشكال وألوان؛ من أغطية الرأس.. بين عمامة شال أبيض على طربوش بدون زر، أو شال أبيض ملفوف على طاقية بيضاء، وتتدلى «عذبة» على هيئة ذيل طويل.. ينزل من الرأس على مؤخر العنق «القفا». أو شال أبيض اشتهر باسمه الخليجي..«غترة»، مرسل على الرأس، يظهر منه في مقدمته أثر المكواة كالسهم المفتوح، ويتدلى طرفاه على العنق والأكتاف من الناحيتين.
ثم أشكال وألوان أيضاً.. من اللحي والشوارب؛لحى مرسلة طويلة إلى منتهاها.. لتصل لمنتصف الصدر، ويدل مظهرها.. على أنها لم تعرف التهذيب لمرة واحدة، وأخرى عرفت التهذيب الخفيف.. وكلاهما عرف الصبغة؛ وخاصة الحنائية، فيتداخل الأبيض مع الحنائي، الذي يبهت مع الوقت. أما الشوارب فهي إما مستأصلة تماماً، ولا أثر للشعر ولا لجذوره على الشفة العليا، وإما قصيرة للغاية أقرب لغبار مبثوث، أو محلوقة بمشط ماكينة حلاقة.. نمرة واحد أو اثنين.
ولم تفلت العيون من التدخل أيضاً، فهي إما مكحولة كحلاً أسود أو كحلي، والكحل إما واضح على الطرف الخارجي للمآقي، وإما مستتر قليلاً عند جذور الرموش.
أما اللسان، فهو متخصص في التحريم والتكريه والوعيد، وترديد أقوال وأحكام وفتاوى ابن تيمية، وابن عبد الوهاب، والألباني، وابن قيم الجوزية، وعزام، والظواهري، والبغدادي.. وغيرهم. ويندر أن تجد استناداً لآية من آيات القرآن الكريم. وإذا أبديت رأيك..مستنداً لنص قرآني،تم الرد فوراً بحديث نبوي معارض، أو بفتوى للحراني والألباني!
ولما كنا في أيام عيد الفطر المبارك، ويعشق الكثير الأغلب منا سماع «يا ليلة العيد آنستينا» بصوت سيدة الغناء على مر العصور أم كلثوم، أو «غنيت مكة أهلها طيبة.. والعيد يملأ أضلعي عيداً» بصوت قيثارة الطرب والمغنى فيروز، فإننا لم نعدم من يعكنن علينا.. بأن آذاننا وعقولنا وذائقتنا وقعت في إثم كبير، ومعصية لا يكفرها شيء؛ حتى وإن دمرنا كل آلات البث.. بما فيها الهواتف المحمولة.
وقد زدت الطين بللاًعلى نفسي، عندما تركت أصابعي تتابع الضغط على حلقات مصورة.. يتحدث فيها واحد من أئمتهم – الذي يعتبرونه أعلم أهل الأرض – وقد توفي منذ أيام، ولذلك تابعت تلك الحلقات.ووجدته – في إحداها – يصب اللعنات على عالم جليل.. هو الدكتور علي جمعة، ويصمه بأبشع التهم، لأنه يستمع للغناء.. ضمن معاصٍ أخرى.
ووجدتنى – عقب جرعة العكننة والترهيب والوعيد – أذهب إلى مثنوي صديقي وشيخي جلال الدين الرومي، لأقرأ ما يخفف عناء أثر كلام الحويني، ووجدت في الجزء الرابع من المثنوي، الذي ترجمه العلامة إبراهيم دسوقي شتا، وأصدره المركز القومي للترجمة، الطبعة الثالثة 2014، حديثاً رومياً تحت عنوان «سبب هجرة إبراهيم ابن أدهم قدَّس الله سره وتركه مُلك خراسان».
ومما جاء فيه ما نصه: «اهجر الملك مثل أدهم سريعاً حتى تجد مثله ملك الخلود… كان ذلك الملك نائماً ليلاً في فراشه والحراس فوق السطح يمارسون الضبط والربط.. ولم يكن هدف الملك من الحرس هو أن يدفع بهم اللصوص والغوغاء، فقد كان يعلم أنه عادل وأنه فارغ من الحادثات مطمئن الفؤاد.. إن العدل هو الحارس وليس بمن يدقون العصي على السطوح». ثم ينتقل مولانا جلال الدين الرومي إلى الإيقاع والموسيقى: «إن أنين المزمار وهدير الطبول فيه شبه قليل من ذلك الناقور العام، ومن ثم قال الحكماء: لقد أخذنا هذه الألحان من حركة دوران الفلك. إنها أنغام دوران الفلك، تلك التي يتغنى بها الخلق بالطنبور والحلق. ويقول المؤمنون إن آثار الجنة جعلت كل صوت قبيح حلواً. فلقد كنا جميعاً أجزاء من آدم، وسمعنا تلك الألحان في الجنة، وبالرغم من أن الماء والطين قد صبا علينا فإننا.. لا نزال نتذكر منها النزر اليسير».
ثم يصل الرومي للقول: «ومن هنا، فإن السماع كان قوت العاشقين، لأن فيه خيالاً للوصال، وبه تقوى خيالات الضمير. بل تتحول إلى صور من تأثير الصوت والصفير. ولقد أسعرت نار العشق من الألحان، مثلما أسعرت نار ذلك الذي كان يرمي ثمار الجوز في الماء». ليدخل الرومي مقطعاً آخر – في متن المثنوي – يحكى فيه حكاية ذلك الرجل الظمآن.. الذي كان يُلقي بالجوز من فوق شجرة الجوز، في جدول ماء كان في منخفض، ولم يكن يصل إلى الماء.. وكان يفعل ذلك حتى يسمع صوت الماء من سقوط الجوز فيه؛إذ كان يطربه هذا الصوت كسماع حسن. وربما أجد فرصة لاستكمال ما قاله الرومي في السماع والموسيقى..
وكل عام وأنتم بخير.
نقلاً عن «الأهرام»