Times of Egypt

بغداد أول مرة

M.Adam
نيفين مسعد

نيفين مسعد

تُلامس عجلات الطائرة أرض بغداد فتطير من رأسي عشرات الأفكار والصور والحكايات والأسماء. قبل دقائق فقط من الآن كان هذا الرأس ممتلئاً بوجوه نازك الملائكة وزها حديد ومحمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السيّاب وعلى الوردي وناظم الغزالي ونجيب الريحاني وميشيل عفلق. 

في داخلي أكثر من تاريخ عربي، ومن هذه التواريخ يوجد تاريخ طويل للعراق. أول كتاب نشرته وأهم ندوات حضرتها وأكثر علاقات بنيتها وأنشط فترة عشتها.. كانت من خلال مركز دراسات الوحدة العربية ومديره خير الدين حسيب؛ أو چنرال المثقفين العرب.. كما لقَّبه محمد حسنين هيكل. الصواريخ التي أضاءت ليل بغداد مرة في 1991 ومرة في 2003، وفي المرتين رفرف قلبي بقوة. الموصل تسقط، ثم تتحرر، ثم تتغيّر. العراق يتزعَّم مقاطعة مصر، ثم يتزعَّم مصالحتها، ثم مصر والعرب يبتعدون عن العراق ويعودون ليتقدموا خطوةً للأمام وخطوتين للخلف. مُدرج ساطع الحصري في معهد البحوث والدراسات العربية، حيث تتلمذت أياماً وحاضرت أياماً، والتقيت عرباً وكرداً وسنةً وشيعةً في عزِّ ازدهار المعهد.. عندما كان على رأسه مدير يؤمن برسالته العربية: أحمد يوسف أحمد. 

في هذه الحاضنة الحميمة، ذقت لأول مرة حلوى المن والسلوى، أو «منّ السما».. كما يسميها أهل العراق، وتلذذت بتمر تثمره نخلات من غرس العتبة الحسينية في كربلاء. ابتسامة أمونة (أمينة شفيق) وهي تقول أكو وماكو، أي يوجد ولا يوجد باللهجة العراقية. أهدتني من باريس صديقتي الكاتبة إنعام كاجه جي عُقداً تراثياً بديعاً.. احتفالاً بنجاح عمليتي الجراحية الكبيرة، فأسكتني حبها، وأنا التي تحترف الكلام…. ياااااه على الجمال يا صاحبة «طشاري» و«الحفيدة الأمريكية» و«النبيذة». 

مع فتح أبواب الطائرة كان قد توقف تماماً شريط الذكريات.. وقف الشريط على وضع ثابت.. دلوقتي نقدر نفحص المنظر.
***
قال لي زملاء الرحلة – ممن سبقت لهم زيارة بغداد – إن بلاد الرافدين تغيَّرت كثيراً عن ذي قبل، ولا أملك تجربة شخصية.. أقيس عليها، لكني أعرف أن بغداد في ظل حكومة محمد شيَّاع السوداني، تحوَّلت إلى ورشة عمل. في طريق المطار شاهدت بقايا سيارتَي أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني.. اللتين فجرَّتهما مُسيَّرة أمريكية، وكم دفع العراق ثمن العداء الأمريكي-الإيراني. 

وعلى مقربة من الفندق سألت عن ذلك السور.. عادي الشكل جداً والطويل جداً جداً، فعرفتُ أنه سور السفارة الأمريكية الأكبر على مستوى العالم، مرحباً بنا إذن.. في زمام المنطقة الخضراء. كان الأمل أن أزور النجف وكربلاء ولم تسمح الظروف، فاكتفيتُ من عطر السبطين بنفحة: ذهبنا إلى حي الكاظمية ببغداد، حيث يرقد الإمامان موسى الكاظم ومحمد الجواد. لا يوجد ثمة اختلاف بين هذا الحي وبين حي السيدة زينب أو حي سيدنا الحسين: زحام شديد وبضائع أشكال وألوان، وأسر كاملة تفترش حرم المسجدين، وبعض المتشبثين بحديد الضريحين يجهشون بالبكاء. هذه ليلة كبيرة أخرى.. من ليالي صلاح چاهين.. «اسعى اسعى اسعى خد لك صورة ستة ف تسعة». 

في متحف الإمام الكاظم، يوجد تجسيد كامل لمعركة الطّف (كربلاء).. الواقعة الأعظم في تاريخ الشيعة، ففيها استشهد الإمام الحسين رضي الله عنه وأرضاه، وعرفت أن اللوحات متاحة للبيع وأن اللوحة الواحدة بمئات الدولارات.. مدد مدد مدد مدد.
***
على مقربة من المكان كان يوجد مكتب المرجع الكبير السيد حسين إسماعيل الصدر، وكان اللقاء معه من أهم محطات الزيارة. استقبلنا الرجل المسن – ذو البشرة البيضاء واللحية الكثَّة الأشد بياضاً – وهو يرحب بمصر العروبة والإسلام والأزهر والأهرامات والنيل والثقافة، هكذا قال لنا وبنفس هذا الترتيب. حدَّثنا عن الوطن والوطنية والمواطنة، وكيف أن هذا الثلاثي هو الأصل والأساس لبناء مجتمع صحي. تكلم عن الحوار مع الآخر.. للتعرُّف عليه لا لتغييره، وعن أن من سيَّس الدين أهانه. وقال إن العلمانية شيء، والإلحاد شيء آخر. ينتمي الرجل لمدرسة السيد على السيستاني – التي تؤمن بالولاية الخاصة للأئمة – فلا يتدخل الأئمة في السياسة إلا استثناءً. دعانا سماحته لمائدة عامرة.. فيها كل ما لذَّ وطاب، فيها طبق السمك المسكوف المشوي بطريقة خاصة، وفيها طبق الأرز بالشبت والفول الأخضر. العراقيون يسمون الأرز «تمّن» وهو اسم محرَّف من ten men أي اسم نوع الأرز الذي كانت تستورده سلطات الانتداب البريطاني.
***
استكملنا زيارة مرقدَي الإمامين الكاظمي والجواد.. بزيارة ضريح الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بحي الأعظمية. كنت مع رفيقي وحدنا في المكان.. عند الوصول، لكن عندما حانت ساعة المغادرة كانت هناك بعض الوفود ذات الملامح الآسيوية في طريقها إلى الداخل. خطف بصري السقف المرتفع جداً بنقوشه المغربية الرائعة، وأشار لنا أحد مسؤولي الحضرة الحنفية إلى صندوقين زجاجيين فارغين، أحدهما يتم فيه عرض شعرة من ذقن نبيِّنا المصطفى.. عليه أفضل الصلاة والسلام، في يوم مولده وأيضاً في ليلة القدر، والصندوق الآخر يتم فيه عرض نسخة من القرآن الكريم، مكتوبة بماء الذهب.. خلال شهر رمضان، ومحتويات كلا الصندوقين من إهداء تركيا. هناك عملية توسعة جارية للمسجد.. مع إنشاء فندق لاستقبال الزوار، وتشجير المنطقة بتمويل قطري. سألت مرشدنا في الزيارة: هل تعرَّض المكان للتفجير؟ ردَّ بالإيجاب؛ فالإرهاب عدو الأضرحة.
***
جميل أن تتمشى في شارع المتنبي، وتجلس على مقهى أم كلثوم.. لتحتسي الشاي (أو التشاي العراقي) بالحبهان.. داخل الاستكانة أو الكوب الزجاجي الصغير، وعندما تطلب المزيد، يرد عليك عامل المقهى بابتسامة ودودة: «تتدللي ست». يلعب رواد المقهى النرد، ويستمعون إلى عوَّدت عيني على رؤياك.. للمحب الكبير أحمد رامي، وصور أم كلثوم وأسمهان وفريد الأطرش تحتضنهم.. من الجدار إلى الجدار. وكما يوجد هذا الطرب – الذي يتسلطن معه أبناء جيلي – يوجد لون آخر من الفن، تراقص عليه المدعوون لأحد الأفراح في قرية دجلة، ومعهم ..رقصت النافورة الملوَّنة في قلب النهر الهادئ، غنَّى أحمد سعد: «إيه اليوم الحلو ده».
***
التقينا مع العديد من الأكاديميين والباحثين، وسعدت جداً بطلابي السابقين.. وقد صاروا رجال دولة. قال لي أحدهم إنه رشحني أيام زمان.. للصديق قيس العزاوي لأكون أول أمينة عامة امرأة لجامعة الدول العربية.. فضحكت من قلبي، وشكرت له جبر خاطري. تناقشنا بصراحة وعتاب – وأحياناً بانفعال – عن الهواجس العراقية والمصرية والمرارات القديمة. 

وفي مقر تيار الحكمة، التقينا بالسيد عمار الحكيم – رئيس التيار، – وكان هذا هو لقائي الثالث معه. هادئ كعادته، حكيم كمثل تياره، محنَّك كأسرته العريقة. يقولون عنه.. إنه بيضة القبَّان ورمانة الميزان في النظام العراقي. تطوَّر تحت رئاسته خطاب المجلس الأعلى الإسلامي. ومع ذلك، كان سقف خطابه أعلى من سقف المجلس، فأخذ نفسه وخرج منه.. مكوِّناً الأمل، ثم الحكمة. في أقل من ساعة واحدة، شربنا تشاياً وقهوةً وعصيراً طازجاً، ولا تكلمني عن الكرم العراقي الحاتمي، فمع كل معرفتي به.. إلا أنه فاجأني.
***
من كل مكان زرته في العراق، حملتُ كتباً وازنة.. بالمعنيين الحقيقي والمجازي، والتقطتُ صوراً.. يختلط فيها الثقافي بالسياسي. أما الذي تركته في بغداد، ولم أزُره فهو كثير. فقد تركتُ حوزة النجف الأشرف، ومدينة كربلاء، وشعرتُ ببعض الغيظ.. لأنني لم أتمكن من مرافقة زملائي إليهما.. لأسباب تنظيمية. وتركتُ مدينة بابل؛ حيث شواهد الحضارات القديمة، وبوابة عشتار المقلدة (أما الأصل ففي برلين)، والحدائق المعلقة.. التي بناها الملك نبوخذ نصر الثاني.. حباً في زوجته أميديا رائعة الجمال. وتركتُ كردستان؛ ذلك الإقليم اللغز، والشعب العنيد.. على حد تعبير فيروز. 

تركتهم من خلفي ولم أرهم بعد.. لكن بغداد أول مرة لن تكون بغداد آخر مرة.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة