زاهي حواس
أمر الوزير الخائن شاور بن مجير السعدي جنوده.. في يوم 22 نوفمبر عام 1168 ميلادياً بإحراق الفسطاط، أعظم حاضرة إسلامية عرفتها الإنسانية. وحسب ما رواه المؤرخ ابن الأثير فإن النيران ظلت مشتعلة في الفسطاط 54 يوماً، وقد أتت على معظم عمائر وأحياء الفسطاط.. بما فيها جامع عمرو بن العاص الذي احترق منبره ومحرابه. احترقت الفسطاط بكنوزها وذخائرها، ولم يوقف احتراقها تقدم الصليبيين الذين قاموا بحصار أسوار مدينة القاهرة.. التي لم ينقذها سوى قدوم جيش نور الدين محمود مرة أخرى، بقيادة أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي.
وبمجرد أن علم عموري، قائد جيش الصليبيين بقدومهما.. أسرع بالانسحاب خشية أن يتم حصاره بين جيش نور الدين محمود وسكان القاهرة. وبعدما دخل أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي إلى القاهرة، تم عزل الوزير شاور والقبض عليه وإعدامه في يناير عام 1169 ميلادية، بعد أن تسبب بخيانته وحماقته في ضياع أعظم حاضرة إسلامية.
بعدها بأسابيع قليلة، يموت الوزير شيركوه، ويتولى صلاح الدين منصب الوزير.. ليقوم بإنهاء حكم الفاطميين، وبداية عصر الدولة الأيوبية في مصر. ويبقى السؤال: ما الذي حدث بعد ذلك للفسطاط؟
أصبحت الفسطاط خراباً، وأخذ أهل القاهرة يأخذون منها ما يصلح من مواد البناء. بعدها – وتحديداً في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي – تتحول الفسطاط إلى موضع للتخلص من القمامة، ومخلفات مدينة القاهرة وضواحيها، بعد اتساعها الهائل خلال العصر الأيوبي (1171– 1250م).
هل يمكن تخيل أن كنوز الفسطاط ظلت دفينة أسفل أطنان من النفايات والمخلفات لقرون عديدة حتى أوائل القرن التاسع عشر لتكتمل فصول المأساة؟ فقد تحولت خرائب الفسطاط إلى ركام من المواد العضوية المتحللة بفعل مئات السنين، وقد تحولت إلى سباخ عضوي يأخذه الفلاحون لتسميد أراضيهم، في حين ترقد ثروات من التحف الأثرية تحت بقايا البيوت المتهدمة والمحترقة.
استمر تجار السباخ في نقله من الفسطاط وبيعه للفلاحين، ومعهم استمر النباشون في نهب الكنوز المطمورة تحت أطلالها. والنتيجة تسرُّب آلاف التحف الأثرية إلى تجار الآثار الأجانب.. الذين كانوا قد وفدوا إلى مصر لتجريفها من تاريخها وآثارها. لقد زينت التحف الأثرية المنهوبة من الفسطاط متاحف أوروبا، والمجموعات الخاصة بقصور النبلاء والأثرياء.. قبل أن ينتبه عالم الآثار المصري علي بهجت – وكيل دار الآثار العربية – سنة 1912، إلى خطورة ما يحدث في الفسطاط من أعمال نهب وسرقة.
بدأ علي بهجت ومساعده الفرنسي ألبرت جابرييل.. أعمال الحفر والتنقيب في الفسطاط (في صيف 1912) بموافقة لجنة الآثار العربية، التي كانت تشرف على إدارة المتحف الذي يُعرف كذلك بدار الآثار العربية.. النواة الأولى لمتحف الفن الإسلامي الآن. الغريب أن بهجت ومساعده لم يعثرا فقط على آلاف التحف الأثرية تحت أطلال المدينة، بل كشفا عن جزء من الفسطاط، وعدد من منازلها.. بتخطيطها الأصلي البسيط؛ عبارة عن فناء مكشوف يتوسط غرفاً متوسطة الاتساع، ويحتوي كل بيت على قاعة كبيرة مستطيلة. وقد كشفت بقايا البيوت أنها كانت مبنية بالآجر.. بشكل جيد، ومزودة بالمرافق الصحية، وأنابيب المياه الجارية. ولم تكن تزيد على طابقين، وذلك على الأقل في الجزء (أو الحي).. الذي تم الكشف عنه، حيث نعرف مما ذكره المؤرخون الرحالة – الذين زاروا الفسطاط وأقاموا بها – أنه كانت توجد بها منازل فخمة ترتفع إلى ستة طوابق، وفنادق ضخمة وخانات ومساجد ودور للعلم.
لفتت حفائر المرحوم علي بهجت.. الأنظار إلى أهمية الفسطاط، التي تغنَّى المؤرخون بجمال منازلها وقصورها وبساتينها التي تحيط بالمدينة وطرقاتها وأسواقها ومتاجرها ومصانعها وحماماتها.
كان من نتائج حفائر علي بهجت، تنظيم وتحديد أعمال تجار السباخ، وتم إصدار تراخيص منظمة لعملهم. واستطاع بهجت تحجيم أعمال النهب والسلب المنظمة لكنوز الفسطاط، وتهريبها إلى تجار الآثار. بالإضافة إلى الكشف عن كنوز من أعمال النسيج، والأخشاب، والخزف، والفخار، والزجاج والمعادن.. التي ملأت خزائن وردهات دار الآثار العربية. فما كان من أعضاء لجنة حفظ الآثار العربية سوى الهجوم الضاري على المرحوم علي بهجت ومساعده الفرنسي، بدعوى امتلاء المخازن بالتحف الأثرية، وتركها بدون تسجيل، في حين دافع كل من عالم الآثار الإنجليزي الشهير كارمون كريزويل وهاري فارنر – العضوين في لجنة حفظ الآثار العربية – عن علي بهجت؛ باعتباره الأثري الذي أنقذ ثروات الفسطاط ، بعد أن كانت تُنهب عن طريق تجار السباخ والنباشين لعشرات السنين.
وفي عام 1920 تم إيفاد بهجت إلى باريس.. في مهمة علمية، قام خلالها بإعداد كتابه الأول عن حفائر الفسطاط، وزوده بكتالوج نادر للصور.. يوثق أعمال الحفر والتنقيب. وقد صدر في باريس باللغة الفرنسية سنة 1921، وتُرجِم بعدها للعربية. أما الكتاب الثاني عن الخزف الإسلامي فقد عكف بهجت على إعداد مادته وهو في باريس، وعاد بها إلى القاهرة سنة 1924 لكنه لم يُنشر إلا سنة 1930، وذلك لأن علي بهجت كان قد انتقل إلى رحمة الله في مارس سنة 1924.. بعد أيام قليلة من عودته إلى مصر.
نقلاً عن «المصري اليوم«