Times of Egypt

الوزير الخائن دمر الفسطاط (1)

M.Adam
زاهي حواس

زاهي حواس 

يظل حريق مدينة الفسطاط – العاصمة الإسلامية الأولى في مصر – واحداً من أشد وأخطر الكوارث الثقافية والأثرية في تاريخ مصر والإنسانية كلها! وعلى الرغم من تلك الحقيقة المؤلمة، هناك الكثيرون ممن لا يدركون إلى الآن حجم الكارثة التي مُنيت بها مصر.. عندما احترقت الفسطاط؟ ولا أُغالي عندما أقول إن كثيراً من المصريين لا يعرفون حجم الثروة الأثرية الهائلة.. التي فُقدت بسبب احتراق الفسطاط – في واحدة من أبشع أحداث التاريخ – وإليكم القصة كاملة منذ البداية.

دخل عمرو بن العاص مصر سنة 640 ميلادية الموافق سنة 20 من هجرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وكان الفاروق عمر بن الخطاب هو خليفة المسلمين، وقد رفض أن تكون الإسكندرية حاضرة لمصر الإسلامية، لأنه كان يرفض وجود مانع مائي يفصل بينه وبين جند المسلمين.. يعيق إيصال المدد إليهم. ولذلك عاد عمرو بن العاص بالجيش، وضرب فسطاطه (خيمته) في موضع بالقرب من حصن بابليون. وبالفعل، بدأ جند المسلمين في تشييد مساكنهم حول فسطاط قائدهم، ومن هنا بدأت قصة أول وأعظم حاضرة إسلامية في مصر.

سرعان ما ازدهرت الفسطاط، وتحولت إلى مركز ثقافي وصناعي وتجاري عالمي.. بفضل الصُناع والفنانين المصريين. وعلى الرغم من استيلاء الدولة العباسية على مصر سنة 750م، ونزول الجيش العباسي.. في منطقة تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة الفسطاط، حيث أقاموا مدينة جديدة أطلق عليها اسم العسكر، إلا أن الفسطاط لم تفقد مكانتها أو أهميتها حتى بعدما أنشأ أحمد بن طولون بعد قدومه إلى مصر مدينة القطائع.. إلى الشمال الشرقي من العسكر سنة 782م، لتكون عاصمة لمصر طوال العصر الطولوني القصير نسبياً.

اتصلت عواصم مصر الإسلامية الثلاث: الفسطاط والعسكر والقطائع في أواخر العصر الطولوني على ساحل النيل، وأطلق المصريون اسم الفسطاط على العواصم الثلاث، كما استخدم الوافدون من خارجها اسم «مصر» للإشارة إلى الفسطاط، كما يحدث إلى يومنا هذا عندما يشار إلى القاهرة باسم مصر.

ظلت الفسطاط هي الحاضرة.. العامرة بمسابك الذهب وورش صناعة المجوهرات والحلي النادرة، وكان بها أفخم مصانع الزجاج في العالم الإسلامي، بالإضافة إلى مصانع السكر والزيوت والعطور ومسابك الفولاذ والنحاس وأفران الفخار والخزف، حتى تاريخ دخول الفاطميين مصر سنة 969 ميلادية، وبعدها بأقل من ثلاث سنوات تم تشييد مدينة القاهرة في 972 ميلادية. وشيئاً فشيئاً بدأت أنوار الفسطاط تنطفئ، وبدأ الصناع المهرة وأصحاب الحرف يهجرونها إلى مدينة القاهرة.. التي أخذت في الازدهار السريع بعد دخول الخليفة الفاطمي المعز لدين الله إليها.

بعدها جاءت أسوأ مجاعة عانت منها مصر – فيما عرف بـ «الشدة المستنصرية» في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله بداية من 1065 – استمرت سبع سنوات حتى 1071 ميلادية، ليعم الخراب بعدها مدينة الفسطاط، وتصبح معظم أحيائها خاوية من الحياة.. إلا النذر القليل المتمسك بإعمار مساجد الفسطاط وزواياها الدينية.

وفي نهاية العصر الفاطمي تحدث الطامة الكبرى حينما أضرم الوزير شاور بن مجير السعدي النيران في الفسطاط عام 1168م، خوفاً من تمركز جيش الصليبيين بها، وذلك في قصة أغرب من الخيال نقصها لنعرف كيف وقعت الكارثة؟

كانت الدولة الفاطمية تلفظ أنفاسها الأخيرة، حينما وصل الحكم إلى الخليفة الطفل الضعيف العاضد لدين الله، وكان الحكم الفعلي في يد وزراء متصارعين. وعندما تم عزل الوزير شاور من منصبه، استعان بنور الدين محمود – أمير الدولة الزنكية في الشام – ليعيده إلى منصب الوزير في مصر.. مع وعد بإعطائه ثلث خراج مصر؟ وبالفعل أرسل نور الدين جيشاً بقيادة قائده الكردي أسد الدين شيركوه، ومعه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي.. لإعادة شاور إلى الوزارة، وهو ما تم بالفعل. لكن نكث شاور بعهده مع نور الدين، ورفض دفع الخراج المتفق عليه، وحاول طرد جيش نور الدين من مصر، ولكي ينجح في ذلك تحالف مع مملكة الصليبيين في بيت المقدس.. المحتلة بقيادة أمالريك الأول المعروف باسم عموري.

وبالفعل، دخل الصليبيون مصر.. لمساعدة حليفهم الخائن شاور.. على طرد جيش نور الدين من مصر. وحدثت مناوشات بين الجيشين عند بلبيس وصولاً إلى هدنة، واتفاق على خروج الجيشين من مصر.

أدرك عموري أن مصر أصبحت سهلة المنال، وأنه لا يمكن الثقة في شاور الخائن. فعاد إليها بجيش كبير.. متجاوزاً بلبيس، بعد أن أعمل فيها القتل والنهب والسلب. ووصلت الأنباء المخيفة إلى القاهرة والفسطاط، فوقع شاور في مأزق، حيث إن الوحيد القادر على إنقاذه هو نور الدين محمود.. لكنه لا يستطيع طلب مساعدته؛ لسابق خيانته لعهده معه من قبل.

وللأسف أقدم شاور على حرق الفسطاط.. ظناً منه أن ذلك سيعطل الصليبيين من دخول القاهرة، وسيمنعهم من التمركز في موقعها، والاستيلاء على مخازنها.. بما فيها من بضائع وذخائر، فيستخدمون مؤنها في محاصرة القاهرة؟! 

وهنا قال شاور المقولة – التي تنسب إليه، ولا يمكن تأكيد ما إذا كان هو بالفعل قائلها أم لا – «لأحرقن مصر على أهلي، ولا أسلمها إلى الروم (الصليبيين)».

وللحديث بقية بإذن الله.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة