Times of Egypt

الوجه الآخر للائحة السعيدية

M.Adam
أحمد الجمال

أحمد الجمال

بين حين وآخر، يتساءل بعض رجال الأعمال والمال.. عن سبب النفور، وأحياناً العداء؛ الذي يبديه كثير من المصريين تجاههم، وبقي التساؤل بصيغتيه الاستفهامية والاستنكارية.. ليختفي فترة، ويظهر أخرى. ولكنه يبقى قائماً، يحتاج لبحث وجهد.. لردم هذه الفجوة في المسار المصري المعاصر؛ حيث الإصرار على أن أي تقدم.. لابد ان يقوم على ساقين، هما الملكية العامة والملكية الخاصة، مع إعطاء الأخيرة حيزاً أوسع.. في النشاط الاقتصادي بكل جوانبه، ولتبقى الأولى مختصة بما هو من المجالات.. التي يجب أن تتصدَّى لها الحكومة، وهي مجالات أضحت معروفة، فيما يمكن ان نسميه «تقسيم العمل». 

ولذلك، وأمام هذه الحتمية، واصلت النبش المحدود في مصادر ومراجع ومشاهد.. لمحاولة فهم أوَّلي لأسباب الظاهرة. ووجدت أن من سوء طالع تلك الشريحة، أن بداياتها في مصر.. اقترنت بسلبيات عانى منها المصريون؛ حيث كانت بداية الملكية الزراعية الكبيرة.. خارج إطار الأسرة العلوية – المالكة من «1805 الى 1952» – في عهد محمد سعيد باشا، الذي حكم مصر من 1854 الى 1863، وأظهر التزاماً قوياً بفتح الأسواق المصرية أمام التجار الأوروبيين. 

ومن المراجع المهمة.. التي أعتمد عليها في هذا النبش، أشرت في مقال الأسبوع الفائت إلى كتاب «إمبراطوريات متخيلة.. تاريخ الثورة في صعيد مصر» الذي ألَّفته بالإنجليزية الدكتورة زينب أبو المجد، وترجمه أحمد زكي عثمان. وذكرت في المقال الفائت.. نصوصاً من قرارات سعيد باشا، لتمكين هذا التحول إلى فتح الأسواق الحرة، وعقاب أي موظف – أو غير موظف – يعرقل ذلك الأمر. 

ثم جاء التحول الآخر في مجال الأرض الزراعية، إذ أصدر سعيد باشا قانون الملكية الخاصة للأرض الزراعية.. باسم «اللائحة السعيدية»، وقد كان الوضع قبله – أي منذ استقرار حكم محمد علي – هو امتلاك الدولة لأراضي جميع القرى. 

وفي سبيل ذلك، ألغى نظام الالتزام العثماني، وساد عنف رهيب – من جانب محمد علي وابنه «إبراهيم» – للاستيلاء على الأرض في الصعيد، وفي المقابل حدثت ثورات فلاحية هائلة. وتفصل الدكتورة زينب أبو المجد ذلك العنف وتلك الثورات، إلى أن تصل إلى أنه.. تحت النظام الخامل واللامركزي لحفيد محمد علي.. عباس باشا الأول؛ استولى موظفو البيروقراطية الحكومية على الأراضي المملوكة للدولة من الفلاحين، وتزايد نموهم كطبقة جديدة من كبار مالكي الأرض الزراعية، وزاد ضغطهم لتقنين ملكياتهم، وصاحب ذلك دعاية وتحرُّك من الإمبراطورية البريطانية.. لضرورة تقديم حقوق الملكية الخاصة، بوصفها العمود الأساسي للتحديث. 

وقد منحت اللائحة السعيدية موظفي الجهاز البيروقراطي.. حقوق ملكية كاملة على أطيان الأبعديات، وفتحت الباب لبيع المزيد.. منها لموظفي الحكومة والأوروبيين، أو أي شخص آخر لديه القدرة على استصلاح أبعدية، ودفع ضرائبها المقررة. 

وباعتبار منطقة قنا – في صعيد مصر – حالة دراسة لما جرى، فإن موظفي الحكومة استحوذوا على آلاف الأفدنة، بعد أن تفوقوا على الفلاحين.. في طرح الأسعار بالمزادات، وقد حدث – في أحد المزادات بقرية السليمية – أن استولى مدير مديرية قنا على أكثر من مائتي فدان، ودخل بعض الفلاحين المزاد ضد المدير.. مُصّرين على أن هذه الأراضي كانت في الأصل ملكاً لهم، إلا انهم خسروا المزاد.. لصالح المسؤول الحكومي النافذ. 

وتقول المؤلفة، إن الأمر الأكثر أهمية.. هو منح الموظفين وشيوخ القرية حقوق الملكية لأطيان العُهَد – عين مضمومة وهاء مفتوحة – التي صادرتها الدولة من الفلاحين.. الذين كانوا قد تركوا أرضهم قبل عهد سعيد، وهربوا الى الجبال.. ثم عادوا لقراهم، فوجدوا أن أراضيهم صودرت.. ووثقت ملكيتها بأسماء ملاك آخرين.. ممن كانوا – في الغالب – من كبار موظفي الجهاز البيروقراطي للدولة، التي حوَّلت قرى بأكملها في الماضي القريب.. الى عُهَد؛ منخرطة في الزراعة التجارية على نطاق واسع، والآن منحت اللائحة السعيدية موظفي الدولة – الذين كانوا يديرونها، او يعملون نظاراً عليها – حقوق الملكية المطلقة لها.. متضمنة توريثها للأبناء والأحفاد. 

وتضرب الدكتورة زينب مثالاً.. بعبد الغفار أفندي – مدير إسنا – الذي امتلك ثلاث أبعديات كبرى، حوت كل منها مئات الأفدنة، واشتهر بتدينه الظاهري، وزهده في الأمور الدنيوية، وسعيه لعمل البر؛ حيث تبرَّع لبناء المسجد الكبير في قوص. ولم يكن الأفندي.. سوى موظف فاسد، استغل منصبه لتشغيل العمال المحليين والعبيد.. دون أن يعطيهم أجورهم، فضلاً عن أنه يتجنب نهائياً دفع الضرائب، ودأب على إقراض الأموال بشكل استغلالي. 

ثم هناك نموذج بشارة عبيد – الثري القبطي المصري – الذي عمل لسنوات وكيلاً للقنصل الفرنسي، وامتلك أبعديات من آلاف الأفدنة؛ مما جعله الشخص الأكثر ثراءً في قنا. 

ولأن المساحة انتهت، فإلى مقال مقبل، أستكمل فيه النبش في تاريخ الملكية الزراعية الكبيرة.. بعد قانون اللائحة السعيدية، وما حاق بجموع الشعب المصري من ظلم وغبن. وربما أصل للبداية الثانية.. لما يسمى الاقتصاد الحر، على عهد الرئيس السادات.. وسياسة الانفتاح، وما اقترن بها ووصمها.. من سمعة سيئة، لنفهم الإجابة عن السؤال.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة