محمد أبوالغار
الهوية.. ليس لها تعريف محدد، لكنها مصطلح يجمع بين شعور بالانتماء، له جانب ثقافي وجانب سياسي واجتماعي وديني. يُجمع الكثيرون على أن ظروف مصر التاريخية والفترة الطويلة التي قضاها المصريون تحت قبضة حكم أجنبي – اختلف من مستعمر إلى آخر – أعطى إحساساً بعدم وجود واضح للهوية المصرية خلال عدة قرون، وكانت للمصريين هويات متعددة، تعتمد على وضعهم الثقافي والاجتماعي والمادي، ولا تجمع المصريين جميعاً في بوتقة واحدة.
يتفق الكثيرون على أن الهوية المصرية تبلورت بوضوح، ودقة شديدة.. أثناء – وبعد – ثورة 1919، حين توارت الهويات المتعددة الثقافية والاجتماعية والمادية والدينية، وتوحدت كلها في هوية واحدة، وأصبح لها اسم واحد، وهو الهوية المصرية.
وبالرغم من أن الهوية المصرية قد تبلورت بوضوح منذ 1919، فإن تيارات مختلفةً ظهرت في مصر، حاولت أن تغير مجرى الهوية المصرية، فهناك تيار العروبة.. الذي ظهر في الفترة الناصرية، والذي صاحبته دعاية قوية، وآمال وأحلام كبيرة.. عن وحدة العرب، وارتفعت النغمة بشدة.. في فترة وحدة مصر وسوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، حتى إن اسم مصر قد اختفى من اسم الدولة، واستمر ذلك لسنوات.. بعد انفصال سوريا عن مصر. هذه الفترة لها مفكروها من المصريين والعرب، لكن صوت السياسة وقوة تأثير عبدالناصر.. أعطيا للتفكير العروبي دفعة قوية. وخلال هذه الفترة، كان الخطاب في الصحافة والرواية وحتى السينما والمسرح، يتحدث عن هوية مصر العربية، لكن بعد هزيمة 1967 وبعد تفكيك العلاقات العربية، والمظهر الضعيف لجامعة الدول العربية.. بدأ غطاء الهوية العربية – ذات الصوت الزاعق الذي غطى على الهوية المصرية والذي استمر ثلاثة عقود على الأقل بعد الفترة الليبرالية – يتفتت.
وبالرغم من بقاء بعض الانتماء العربي في الهوية المصرية، فإنه فقد بريقه، ولم يبقَ منه سوى تأثير اللغة.. التي تجمع العرب جميعاً، وهي مكوِّن مهم في الهوية. وفي تاريخ مصر الحديث، كانت هناك روافد من التاريخ الفرعوني، التي يعتقد البعض أنها تؤثر على الهوية المصرية، وبالرغم من إعجاب المثقفين المصريين بالتاريخ الفرعوني وعظمته، فإن هناك أموراً منعت هذا التاريخ العظيم.. من التأثير على الهوية المصرية، وأولها أن هذا التاريخ شديد القدم، وقد تمت تغطية معظم هذه الآثار بالرمال.. لفترة تعدت آلاف السنين، وفقد المصريون التواصل تماماً مع هذا التاريخ، ولم يعرفوا عنه شيئاً. ثم جاء علماء الآثار من الغرب، فاكتشفوا عظمة هذا التاريخ. وبالرغم من الزهو الشديد للمصريين بهذا التاريخ، فإنهم لم يشعروا بأنهم ينتمون إلى قدماء المصريين، هم فقط عرفوا عنهم.. بعد أن اكتشفهم الخواجات، وأعجبوا بهم، ولم يتفهموا سبب هذا الإعجاب في البداية، ومما زاد الأمور صعوبةً،ما أشيع أن التماثيل حرام في بعض التفاسير الإسلامية، وسمى المصريون أعمال القدماء الخالدة بـ«المساخيط».
بعد ثورة ،1919 بدأ بعض المثقفين المصريين من الكتاب الاهتمام بأعمال قدماء المصريين، فكتب محمد حسين هيكل قصتين قصيرتين في عام 1925 عن إيزيس وهاتور، وفي بدايات نجيب محفوظ، كتب رواياته «عبث الأقدار» و«رادوبيس» و«كفاح طيبة»، وجميعها عن المصريين القدماء. وتوفيق الحكيم نشر روايته «عودة الروح»، وفي الصفحة الأولى منها نشيد «كتاب الموتى». وفي مسرحية «شهرزاد»، تظهر إيزيس الفرعونية تخاطب شهرزاد العربية.
وفي العصر الحديث – بعد انتشار وتوسُّع ما يُكتب عن الحضارة المصرية القديمة وزيارات تلاميذ المدارس للمعابد وتفتح العقول – بدأت الحضارة المصرية القديمة تأخذ.. على استحياء، جزءاً بسيطاً من الهوية المصرية، لكنه لم ينصهر بعد ليصبح مكوناً أساسيا من الهوية.
الدين يكون جزءاً من الهوية، ومع صعود التيار الإسلامي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، بدأ الدين يحتل جزءاً كبيراً من هوية المصريين، وينطبق ذلك على المسلمين والمسيحيين، حتى أصبحت الهوية المصرية عند نسبة كبيرة من المصريين.. يطغى عليها المكون الديني، حتى وصل الأمر إلى أن يكتب البعض في خانة الجنسية، في أي استمارة.. «مسلم» أو «مسيحي»، بدلاً من «مصري». وطغيان الدين على الهوية مشكلة كبرى، تُضعف الهوية، وتُضعف الجانب الوطني والانتماء، الذي هو جزء أساسي من الهوية الوطنية للإنسان.
هذا الطغيان الديني على الهوية يُفقد المواطنة والوطنية، ويصبح هناك نوع من الأممية الإسلامية كما كانت الأممية الشيوعية.. تدعو إلى أن يفقد الإنسان موطنه ليصبح جزءاً من كيان عالمي.
وهناك تيار آخر ظهر وأحدث تأثيراً في الهوية المصرية، خاصةً بين طبقات المتعلمين، هو تأثير أوروبا.. أو ما يسمى بحضارة البحر المتوسط. نشر طه حسين كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» عام 1938، وناقش قضية هوية المصريين الثقافية، وأن المصريين قد تأثروا بالغرب.. منذ عصور بعيدة من الحضارة الهيلينية والرومانية. واعتبر طه حسين أن هناك مكوناً ثقافياً يجمع بين شعوب البحر المتوسط.. بعيداً عن اللغة ووحدة الجنس، ودعا إلى دراسة اللغات الأوروبية القديمة والحديثة، والاتصال بأوروبا والأخذ بأسباب الرقي التي أخذت بها. وقال إن المسلمين أخذوا بحضارة الروم والفرس، وقال إنه لا خوف على شخصيتنا القومية وعلى ميراثنا، ويجب ألا ننكر أنفسنا وتاريخنا ونجحد ماضينا، ولا أن ننفر من الأوروبيين، وأن العقل الشرقي.. هو الذي مهَّد للعقل الذي ازدهر في أوروبا، وهو مصدر حضارتها التي نريد أن نأخذ بأسبابها.
هذا التيار أحدث تأثيراً عظيماً على حياة المصريين، فهم يتعلمون على الطريقة الأوروبية، وجامعاتهم تسير على نفس المناهج، وطريقة الأكل والشرب ونمط الحياة. ودخول التكنولوجيا قد أثر كثيراً على حياة المصريين، لكن هناك شكاً كبيراً.. بأن يكون ذلك قد أثر على الهوية المصرية التي تتصرف في الحياة اليومية، مثل الأوروبيين، لكن طريقة التفكير والإحساس الوطني لم يتأثرا بهذا التيار، بحيث يغير الهوية المصرية.
وكتاب الأستاذ صبحي وحيدة في أصول المسألة المصرية (1950) الذي تعمق في جذور فلسفة تاريخ، ودرس وحلل الشخصية المصرية.. من الناحية الاقتصادية والتاريخية رافد مهم في دراسة الهوية المصرية.
يبقى تأثير حركة الضباط الأحرار عام 1952، والتغيرات الجذرية السياسية والاقتصادية التي حدثت أثناء حكمهم، وتحتاج إلى دراسة وتحليل.. لنعرف تأثيرها على الشخصية المصرية والهوية المصرية.
هوية المواطن، وانتماؤه – في كل مكان في العالم – أمر مهم تهتم به الدول والمواطنون. وبتقدُّم الزمن، أصبحت هويات الدول الأوروبية شديدة التقارب في كل الأمور المهمة، لكن تبقى فروق بسيطة؛ فالأكل والطبيخ والنبيذ.. جزء مهم إضافي للهوية الفرنسية. ومقاهي شرب البيرة، ومشاهدة مباريات كرة القدم في الملاعب.. جزء من الهوية البريطانية.
الهوية المصرية – التي نضجت بعد ثورة 1919، وأصبحت واضحةً – تعرضت لضغوط مختلفة خلال نصف القرن الماضي، وإن ما زالت تحتفظ بجزء مهم منها. هناك أهمية كبرى في وجود هوية للمواطنين تجمعهم، ووجودها أحد أسس التقدم والازدهار.
نقلاً عن «الشروق»