Times of Egypt

الموسوعية وتجديد رؤيتنا للعالم

M.Adam
سمير مرقص 

سمير مرقص

(1)

«الأصل التاريخى للثقافة الموسوعية»

الثقافة الموسوعية أحد أهم إبداعات العقل الإنساني على مدى التاريخ. إذ تُعد إحدى أهم الاستجابات التي طورها الفكر الإنساني لاستيعاب التطورات المعرفية المتلاحقة في شتى حقولها بالقرن الثامن عشر. مثلت تلك التطورات لحظة فارقة في التاريخ الإنساني بين زمنين؛ من زمن العصور الوسطى.. الظلامي والأسطوري والتلقيني، إلى زمن التنوير والتأصيل الفلسفي.. والاكتشاف والابتكار العلمي. ويعود الفضل إلى إدراك أهمية الثقافة الموسوعية.. لأعضاء الجمعية الأدبية الفرنسية الذين أسسوا ما عُرف تاريخياً بجماعة «الموسوعيين» (الإنسيكلوبيديين) في عام 1751. 

ترأس هذه المجموعة الفيلسوف الفرنسي «ديني ديدرو» (1713 ــ 1784)، وشاركه في مراحل مختلفة أسماء مثل: «فولتير، وروسو، ودالامبير، وكوندياك»، وغيرهم من أفذاذ المفكرين والعلماء في القرن الثامن عشر. هدفت هذه المجموعة إلى وضع موسوعة (دائرة معارف).. لتكون «المستودع المعرفي» لأفكار التنوير الفرنسي وقيمه العليا (بحسب «فردريك كوبلستون» في موسوعة تاريخ الفلسفة). ونتج عن هذا الجهد.. ما عُرف تاريخيا بالموسوعة العقلانية للعلوم والفنون والصناعات (1751 ــ 1780)، التي ساهمت في تقدم فرنسا على جميع الأصعدة. اعتمدت المنهجية التي اتبعها «الموسوعيون».. على توفير مادة معرفية شاملة حول الموضوع الذي تتناوله، لتعين قارئها على أن يحظى بتأسيس علمي، ومدخل صحيح للموضوع من شتى جوانبه؛ من حيث: رصد لأهم اتجاهاته وتطورها التاريخي، أهم الرموز التي أبدعت في عناصر الموضوع المختلفة، التأصيل الفكري لموضوعات الموسوعة،…، إلخ.

(2)

«في فلسفة الثقافة الموسوعية»

ما قام به الموسوعيون من جهد تأسيسي في القرن الثامن عشر.. لم يكن مجرد جهد تجميعي للمعلومات، بل كان بلورة لرؤية حول العالم الجديد الآخذ في التشكل اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً، وثقافياً، فلقد اكتشف الموسوعيون الأول أن الحراك المجتمعي بأبعاده المختلفة.. قد صار مركباً ومتسارعاً، وأن المنظومة المعرفية السائدة لم تعد تجيب عن كنه هذا الحراك.. بتعقيداته المتشابكة. كما أن المقاربات التخصصية المعرفية لا تستطيع أن تقارب تلك التعقيدات منعزلة عن بعضها البعض. لذا تم الاعتماد التاريخي، حسب أحد المفكرين في مجال علم المعرفة، لمفهوم/عملية: «إسقاط الحواجز بين الحقول المعرفية»؛ ومن ثم تأسيس ما يمكن أن نطلق عليه: «المقاربة العابرة للحقول المعرفية». 

ما يترتب على الموسوعي، وحتى يكون موسوعياً حقيقياً، حسب أحد المصادر، «ألا يكتفي بحيازة المعلومات، بل يدفع بها إلى الفضاء الفكري.. كي يتناولها تناولاً مركباً – متعدد الأبعاد والمستويات والزوايا – ليُنتج منها (معنى/معاني)». وهذا المعنى هو ما يجعل الثقافة الموسوعية ..تختلف عن التكديس المعلوماتي. فالموسوعي الحقيقي لا يجمع المعارف.. كما يجمع المرء أشياء متناثرة، بل يعيد تركيبها بحيث تُسهم في بناء صورة أشمل للعالم، خاصة إذا كان في حالة تحول.. تختلف كلياً عن التحولات التي مر بها من قبل. إذ لم تعد التحولات تتبع المسار الخَطِّي للتطور، بل أصبحت طفرية ومتراكبة.. في الألفية الثالثة الموسومة بالزمن الرقمي.

(3)

«أمثلة للإصدارات الموسوعية في 2025»

في ضوء ما سبق، فإن المتابع للدوائر الأكاديمية ودور النشر العالمية، سوف يتأكد له كيف أنها تولي اهتماما بالغاً في إنتاج الموسوعات، والأدلة التي تنتهج نهج الكتابة الموسوعية.. الحريص على ما يلي: الأول: رصد التجدد المعرفي والعلمي والفكري. الثاني: طرح أسئلة جديدة وتجريب مقاربات مبتكرة للأبعاد البحثية المختلفة. الثالث: مواكبة كل ما هو جديد من إشكاليات تقترن بالموضوعات المختلفة. الرابع: رصد المصادر الرئيسية للتوسع واقتراح قراءات مختارة للاطلاع. 

ولا تتوقف الموسوعات/ الأدلة الصادرة عند حقول معرفية بعينها، بل تمتد إلى كل الحقول المعرفية، والأهم أنها تدمج بينها في إبداع ممتع. ومن الملاحظ أن إنتاج تلك النوعية من الإصدارات يتزايد عاماً بعد عام، فمن يقوم بمسح للإصدارات الموسوعية.. التي أنتجتها دور النشر والدوائر الأكاديمية خلال العقد الأخير، سوف يلحظ أن هناك ثروة معرفية تقدم خرائط معرفية شاملة، ومعلومات لا حدود لها وتنظيرات ودراسات مسحية متنوعة حول شتى الموضوعات. 

في هذا المقام، نقدم بعض العناوين التي صدرت خلال هذا العام، وذلك كما يلي: أولاً: إصدارات أوكسفورد: الدليل إلى الناتو، الدليل إلى الاقتصاد السياسي الدولي، سياسات الأرض. ثانيًا: كمبريدج: النظرية الدستورية، وحرية التعبير. ثالثاً: روتليدج: مبادرة الحزام والطريق في أوراسيا، وتغير المناخ والمجتمع، الإسلام العالمي وثقافة الاستهلاك، تاريخ تركيا الحديث، الدين والقومية. رابعًا: بالجراف: الصحافة الرقمية العالمية، الجناح اليميني الشعبوي والآخر من منظور عالمي، الدليل إلى والتر بنيامين، جدل التنوير الرقمي. خامسًا: إلجار: العدالة الاجتماعية في الجنوب العالمي. ونلفت النظر أن متوسط صفحات أي إصدار يكون حول الـ750 صفحة.

(4)

«الموسوعية ضرورة»

وبعد، الثقافة الموسوعية باتت ضرورة في الزمن الرقمي.. لفهم الظواهر الإنسانية والمجتمعية شديدة التعقيد. وما أدركه الموسوعيون الأوائل في القرن الثامن عشر – بتأسيسهم رؤية شاملة للمعرفة – أكاد أجزم اليوم بأننا في أشد الحاجة إليه.. أكثر من أي وقت مضى، في سياق يشهد تضاعفاً معرفياً وتجدداً تكنولوجياً غير مسبوق، إذ لا يمكن فهم العالم الجديد، ما لم ندرك الخريطة المعرفية.. التي توضح ملامح وأبعاد هذا العالم. فالموسوعات – بالنهج الراهن – تمثل البنية التحتية المعرفية، لإدراك العالم في الزمن الرقمي من جهة. وتجديد رؤيتنا نحو العالم من جهة أخرى.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة