سمير مرقص
(1)
«العمر بين المكتبة والرسالة»
قبل أسبوعين تحدثت عن علاقتي الحميمة بمكتبتي.. في مقالي المعنون: مكتبتي حياتي. عرضت فيه كيف صارت مكتبتي مقابلاً موضوعياً لحياتي، و«أناي»، وسيرتي، ومسيرتي. فبفضل ما تضمنته مكتبتي من آلاف الكتب تشكلت رؤيتي ومنهجي وأفكاري، ما ساهم في تطوير وتنوع كتاباتي. ونظراً لحرصي على متابعة ومطالعة جديد حقول المعرفة، كانت مكتبتي تتجدد باستمرار، ومن ثم تتجدد الرؤى، والأفكار، والمعارف، والخبرات. ما ترتب عليه اكتساب فضائل: التساؤل، والمراجعة، والبحث، وإعادة النظر. ومن ثم الإبداع.
وفي مقال الأسبوع الماضي تحدثت عن علاقتي بالمواطنة؛ باعتبارها ذروة ودُرَّة تجليات تلك المرآة. ومن ثم باتت مع مرور الوقت، بالنسبة لي: المبدأ الفكري الحاكم لمسيرتي من جهة أولى، والمحدد للرؤية من جهة ثانية، والموجِّه للفعل من جهة ثالثة. نعم، بداية تعرُّفي على المواطنة بدأت عبر إشكالية التوترات الدينية.. التي شهدها المجتمع المصري مطلع السبعينيات، إلا أن المكتبة المتجددة قد منحتني فرصة توسيع زاوية الرؤية للمفهوم، وكيف أنها ليست نصاً يصاغ أو قراراً يُتخذ، وإنما يرتبط تحقيقها بدرجة التطور الاقتصادي/الاجتماعي وبهيكل الدولة، وبنمط الإنتاج السائد، وبالبناء الطبقي، وبالعملية الديمقراطية بتفصيلاتها، وبالسياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية،…، وعليه أدركت أن المواطنة عملية مركبة تتقاطع مع حركة الإنسان اليومية في شتى المساحات الحياتية والمجالات النوعية.
(2)
«المواطنة: حقل معرفي مستقل بذاته»
ربما يكون من المفيد الحديث حول اللحظة.. التي أدركت فيها أن المواطنة مفهوم أوسع بكثير، من الرؤية التي حصرته في مسألة التوتر الديني. البداية كانت مع التحضير لدليل تدريبي عملي حول علاقة التنمية بالمواطنة، وذلك منتصف التسعينيات. وكنا فريق عمل يتكون من الزملاء الباحثين المعتبرين: نادية رفعت، وفيفيان فؤاد، وعمرو كمال حمودة. وكالعادة، كنا نحرص على أن نوفر قاعدة معرفية حول العمل الذي نحن بصدده. فعملت «نادية» على توفير المصادر التأسيسية من مكتبة الجامعة الأمريكية – التي كان أولها الكتاب الذي أشرنا إليه، الأسبوع الماضي، الذي يُعد الكتاب التأسيسي لمادة المواطنة لعالم الاجتماع البريطاني: ت. هـ. مارشال (1893 ــ 1981) المعنون: «الطبقة، المواطنة، والتنمية الاجتماعي» – وبادرت «فيفيان» إلى ترجمة فقرات من كتاب «مارشال».
كان كتاب مارشال مدخلاً لاجتهادات موجات متعاقبة من الإبداع حول المواطنة من حيث: أولاً: المفهوم. وثانياً: الأبعاد المدنية/السياسية/الاقتصادية/الاجتماعية/الثقافية. وثالثا: كونها منظومة حقوق. ورابعا: علاقتها بالدولة والأمة والوطن، والمجتمع، ونمط الإنتاج، وبالبناء الطبقي، وبالمجتمع المدني. وخامسا: موقفها من قضايا وإشكاليات مثل: الهوية والقومية والتنوع الثقافي والعدالة والحداثة والمساواة والرفاه والكرامة الإنسانية.
ومن خلال المسح/الكشف المعرفي لتلك الاجتهادات، أدركنا أمرين؛ الأول: أن أجيالا معتبرة من المجتهدين قد قاربوا المواطنة وطوروا ما أسسه مارشال مثل: جيدنز، وبريان تيرنر، وكيميليكا،…، إلخ. والثاني: أن تلك الاجتهادات قد أست حقلاً معرفياً خاصاً بالمواطنة. ونشير هنا إلى أن كثيراً من الكتابات العربية التي تناولت المواطنة – عندما شاع المصطلح عربياً – قد تناولته وفق الحقل المعرفي.. الخاص بالديمقراطية، إذ لم يكن – فيما يبدو – يدرك أصحاب هذه الكتابات حقيقة.. أن للمواطنة أدبياتها. وهنا أدركت ضرورة إنجاز ثلاث مهام ملحة في نفس الوقت.
(3)
«مكتبة ووحدة بحثية وموسوعة»
المهمة الأولى: تأسيس مكتبة تجمع أدبيات المواطنة، وتحرص على متابعة الجديد في هذا المقام. والمهمة الثانية: تأسيس وحدة بحثية بعنوان: وحدة دراسات المواطنة، تُعنى بإصدار سلاسل علمية حول تأصيل مفهوم المواطنة. والمهمة الثالثة: الكتابة الشارحة للمفهوم في ضوء أدبياته من جهة، ومحاولة اكتشاف مسار/مسيرة المواطنة في السياق المصري؛ خاصة مع انطلاقة الدولة الحديثة في مصر عام 1805. واليوم – وبعد ثلاثين عاما من التزامنا بهذه المهام – كان الحصاد كما يلي: بالنسبة للمهمة الأولى: تم جمع ما يقرب من 3000 كتاب عن المواطنة، تقارب المفهوم وتطوره.. في ضوء التحولات المجتمعية المتنوعة والتجارب المواطنية في المجتمعات المختلفة، والنقاشات النظرية والممارسات المواطنية القاعدية.. في السياقات المجتمعية المختلفة (تغطي المكتبة الإصدارات الرائدة التي انطلقت في خمسينيات القرن الماضي وحتى عام 2025، وذلك فى نسخة رقمية).
أما بالنسبة للمهمة الثانية: تم إصدار ما يقرب من 15 كتاباً تأصيلياً حول المواطنة، بأقلام كل ألوان الطيف الفكري المصرية: إسماعيل صبري عبد الله، ووليم سليمان قلادة وطارق البشري وأبو سيف يوسف ورؤوف عباس ورأفت عبد الحميد وأنور عبد الملك والسيد يسين وقاسم عبده قاسم. وهناك أيضا آخرون لا يزالون يبدعون، أمد الله في أعمارهم: محمد سليم العوا، ونبيل عبد الفتاح، ومحمد عفيفي… إلخ. وأخيراً المهمة
والثالثة: إصدارنا «المواطنة والهوية: جدل النضال والإبداع في مصر ــ 2024، الصادر في 2024 عن دار العين في 600 صفحة»، والذي وضعنا فيه خلاصة نظرية وحركية حول المواطنة؛ أو ما أطلقت عليه جدل النضال والإبداع المنتج للمواطنة. كذلك ثبت بالمصطلحات التي أدخلاها إلى العربية والتي قمنا بسكها في هذا المضمار… وماذا بعد.
(4)
«موسوعة المواطنة: حلم العمر»
وبعد، لم تكن هذه المكتبة أو تلك الإصدارات مجرد رصيد من المراجع، بل مرآة لتجربتي الشخصية مع المواطنة: الرسالة التي توحدت بها؛ فكل كتاب أضفناه إلى المكتبة، وكل عمل دراسي أنجزته أو دفعت إلى إنجازه ونشره عبر الوحدتين البحثيتين حول المواطنة (تجربتان في المأسسة.. قمت مع آخرين في تأسيسهما: المركز القبطي للدراسات الاجتماعية في 1994، ومؤسسة المصري للمواطنة والحوار في 2007؛ نلقي الضوء عليهما لاحقاً)، كانا بمثابة بنية تحتية تأسيسية أطلقت الإصدارات التأصيلية.. التي أصبحت بمثابة لبنات في البناء المعرفي والعلمي للمواطنة.. الذي اجتهدنا في تشييده على مدى ما يقرب من أربعة عقود. وهو ما مهد الطريق للمشروع الكبير، الذي أعتبره حلم العمر: موسوعة المواطنة… وقد تحدثنا عن هذا الحلم في كتابنا: أحلام فترة العزلة (دار العين ــ 2024). لن تكون الموسوعة تجميعاً لما صدر من قبل، بل هي محاولة لبناء مرجع شامل.. يضم الجدل النظري والمدارس المختلفة والتجارب التطبيقية عالمياً وعربياً.
… الموسوعة بالنسبة لي ليست مجرد مشروع فكري، بل مسؤولية معرفية ووطنية أتمنى إنجازها.
نقلاً عن «المصري اليوم»