د. أحمد يوسف أحمد
ركزت المقالة الماضية على المخاطر الداهمة.. التي تُحدق سواء بمستقبل فلسطين، أو النظام العربي ككل؛ نتيجة السياسات الإسرائيلية – المدعومة أمريكياً – التي يجرى تنفيذها بالفعل، وعدم تناسب ردود الفعل العربية على الإطلاق.. في مواجهة هذه المخاطر، رغم المدى الزمني الذي أتيح (نحو سنتين).. لبلورة آليات فعالة للمواجهة، التي سوف يفضي غيابها لتداعيات.. أقل ما توصف به أنها خطيرة، وانتهت المقالة بالإشارة إلى أن أول شروط المواجهة؛ يتمثل في تخلي بعض الأطراف العربية عن تحوطه من إغضاب إسرائيل، على أساس أن نجاح مخططها لمستقبل المنطقة.. سوف تكون تداعياته على هذه الأطراف؛ أفدح بكثير.. من أي تداعيات يمكن أن تلحق بها من جراء المواجهة الرشيدة المحسوبة.. لإسرائيل ورعاتها.
ومن حق القارئ أن يسأل: أليس طرح سؤال المواجهة، بعد قرابة سنتين من بدئها.. متأخراً؟ وأرد على السؤال بإجابتين؛ أولاهما: أنه يمكن القول بوجود نوع من المواجهة العربية، بعد بداية الرد الإسرائيلي على عملية 7 أكتوبر. وهي طبعاً المواجهة الدبلوماسية، التي ثبت لاحقاً.. عدم فاعليتها. ومن هنا، ضرورة استكشاف آليات أخرى. والثانية: أن المواجهة قد وصلت الآن.. إلى نقطة لا يمكن لإسرائيل أن تدعي فيها، أنها ترد على 7 أكتوبر؛ بينما هي تعمل على إعادة احتلال غزة، وضم الضفة، ناهيك بتصريحات رئيس وزرائها.. عن إسرائيل الكبرى. ولذلك فنحن أمام تحول نوعي.. في المخططات الإسرائيلية، أو افتضاح كامل لها. ومن ثم، فإن القعود عن المواجهة، يرقى إلى الموافقة.. على هذه المخططات الخطيرة.
وقد سبقت الإشارة.. إلى أن الحديث عن آليات المواجهة، يستبعد الآليات العسكرية أولاً: لأن العمليات العسكرية بدأت في 7 أكتوبر 2023.. بقرار من المقاومة في غزة، وليس بقرار عربي. وثانياً: لغياب اتفاق عربي حول آليات العمل العسكري المشترك، بحيث تبقى الآليات العسكرية مطروحة حصراً.. على سبيل الدفاع، إن تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمراء.. تجاه أي طرف عربي قادر على الرد. ولأنها للأسف.. تجاوزتها بكثير في سوريا ولبنان من قبلها، فماذا عن آليات المواجهة الأخرى.. التي يمكن حصرها في الآليات الدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية. ولنبدأ بالأولى؛ التي تنطوي على مدى واسع.. من أعمال الدبلوماسية الخشنة – إذا جاز التعبير – لأن الأدوات المستخدمة حتى الآن.. تندرج جميعها في سياق الدبلوماسية الناعمة، التي تصل في أقصاها.. إلى استنكار الجرائم الإسرائيلية وإدانتها، بينما هناك مدى واسع من أعمال العقاب الدبلوماسي؛ يبدأ بسحب بعض أعضاء البعثات الدبلوماسية لدى إسرائيل وصولاً إلى السفير، وتخفيض مستوى التمثيل معها، وينتهي بإعلان دبلوماسيين إسرائيليين.. أشخاصاً غير مرغوب فيهم؛ بما في ذلك السفير. وطبعاً، تنطبق هذه الآليات على الدول ذات العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. فإن تحرجت من ذلك، يبقى مجال واسع للحركة على الصعيد الدولي.. في الأمم المتحدة، والمنظمات المتخصصة المرتبطة بها.. كاليونسكو واليونيسيف، ومنظمة الصحة العالمية، ومجلس حقوق الإنسان.
وتبدأ المواجهة هنا.. بمجلس الأمن؛ الذي لا أمل في قدرته على اتخاذ أي قرار ضد إسرائيل، وقد عجز أصلاً عن اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار.. بسبب الفيتو الأمريكي. ولكن المجلس – بالتأكيد – ساحة مهمة لفضح السياسة الإسرائيلية، والدعم الأمريكي الفج.. لها. ثم يأتي اللجوء إلى قرار الاتحاد من أجل السلام (الصادر عام 1950)، الذي يتيح للجمعية العامة – في أي حالة يخفق فيها مجلس الأمن، بسبب عدم توافر الإجماع بين أعضائه الخمسة دائمي العضوية.. في التصرف كما هو مطلوب للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين – أن تبحث المسألة بسرعة، وتصدر أي توصيات تراها ضرورية، وقد طُبق هذا القرار مرتين في الخمسينيات؛ أولاهما: على الحرب الكورية.. التي كانت السبب في صدوره، والثانية: على العدوان الثلاثي على مصر 1956؛ حيث اتخذت الجمعية العامة قرارات.. طالبت بوقف إطلاق النار، وسحب القوات المعتدية، وتشكيل قوات طوارئ دولية.. للفصل بين المتحاربين.
وغير ذلك، يمكن للدول العربية أن تقود حملات دبلوماسية شرسة.. ضد الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.. في منظمات الأمم المتحدة المتخصصة؛ كاليونسكو واليونيسيف، ومنظمة الصحة العالمية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؛ حيث جرائم الحرب الإسرائيلية – المشمولة بنشاط كل هذه المؤسسات – بلا حصر.
أما على صعيد القضاء الدولي.. فحدث ولا حرج؛ إذ يمكن للدول العربية.. أن تنضم – على أساس جماعي – لدعوى الإبادة الجماعية المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وتمطر المحكمة الجنائية الدولية.. بدعاوى جديدة؛ توفر ممارسات إسرائيل وتصريحات مسئولوها العنصرية.. أركانها بامتياز.
وأعلم أن هناك من سيتساءل عن جدوى هذا كله، وأن الأمر لن يختلف.. عن تأثير بيانات الاستنكار والإدانة. وأختلف مع وجهة النظر هذه، أولاً: لأن المواجهة لن تقتصر على المستوى الدبلوماسي، وثانياً: لأن معركة الإنهاك الدبلوماسي لإسرائيل.. مهمة؛ خاصة بعد أن سقط قناع الزيف عنها، وبدأ العالم يكتشف حقيقتها العنصرية.. على نحو متزايد، وبدأت تفقد – على نحو متسارع – تعاطف دوائر عديدة في الرأي العام العالمي.. بما في ذلك داخل حلفاء وأصدقاء لها، بل لدى قطاعات يهودية واسعة في دول عديدة، ونذكر أن افتضاح طبيعة النظام العنصري البائد في جنوب أفريقيا، وفقدانه الدعم الدولي.. مثل عاملاً أساسياً في تصفيته في تسعينيات القرن الماضي.
وبالنسبة للآليات الاقتصادية، سوف تنسحب على الدول العربية.. ذات العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل، وسوف يكون منطقها.. هو ربط استمرار هذه العلاقات بتخلي إسرائيل عن سياسات القتل والحصار والتجويع.. في غزة بصفة خاصة. أما على الصعيد الإعلامي، فإن المواجهة موجودة بالفعل.. على صعيد معظم وسائل الإعلام العربية، وإن وجب استهداف تلك التي تساوي بين المجرم والضحية، وتنتقد المقاومة.. بأكثر مما تنتقد إسرائيل.. بأن تتوقف عن هذا النهج غير المسؤول.
وفي الأسبوع القادم بإذن الله، أستكمل الحديث عن آليات المواجهة.. بدور المجتمع المدني العربي، والتحرك في الداخل الإسرائيلي.
نقلاً عن «الأهرام»