مصطفى كامل السيد
عنوان هذا المقال.. مستوحى من مسرحية شهيرة لأديب مصر الراحل، دكتور يوسف إدريس، سعدت بمشاهدتها عندما عُرضت لأول مرة في القاهرة في سنة 1966، وتدور المسرحية.. باختصار حول طبيب نفسي، يعالج ثلاثة أشقاء من أسرة واحدة، تنضم إليهم والدتهم، ويحكي كل منهم قصة.. يعجز الطبيب المعالج عن فهمها، وينتهي به الأمر.. أن يدخل – هو نفسه – مستشفى الأمراض العقلية؛ ليأسه من فهم القصص المتضاربة والمتناقضة.. لأفراد هذه الأسرة.
لا شك أن الكثيرين.. قد شعروا بالعجز عن فهم حقيقة التطورات، التي أدت بالولايات المتحدة.. للتوقف عن مساعيها للوصول إلى حل دبلوماسي لقضية البرنامج النووي الإيراني، ثم مسايرتها لرئيس الوزراء الإسرائيلي – بل والمشاركة معه – في شن الحرب على إيران؛ تلك الحرب التي انتهت بالتوافق على وقف إطلاق النار، بل وعلى السماح لإيران.. بمهاجمة قاعدة عسكرية أمريكية؛ هي قاعدة العُديد في قطر، مع الإبلاغ المسبق للولايات المتحدة وقطر.. على هذه النية؛ مما دعا الكثيرين في مصر.. إلى الاعتقاد بأن كل أحداث هذه الحرب، هي مسرحية هزلية، بل ومن وجهة نظر بعضهم.. هي أيضاً مسرحية فاشلة، لأنهم لا يصدقون ما يقوله أطرافها عنها.
ليست هذه وجهة نظر كاتب هذا المقال، فهي – في رأيه – تطور خطير، يكشف عن أبعاد النظام العالمي في الوقت الحاضر – والخطوط العريضة في النظام الإقليمي في الشرق الأوسط – ولكنها في نفس الوقت، مهزلة.. تنتمي لما يسميه المتخصصون في العلوم السياسية بـ «عالم الما بعديات»؛ والمقصود هنا – كما سيفصل المقال – ثلاثة جوانب في هذا العالم.. هي ما بعد الحقيقة، وما بعد حكم القانون، وأخيراً ما بعد الرشادة في الشرق الأوسط.
عالم ما بعد الحقيقة
ولنبدأ بالعدوان الصارخ على الحقائق.. من جانب أطراف هذه الحرب؛ وخصوصاً الولايات المتحدة وإسرائيل ووكالة الأمم المتحدة للطاقة الذرية.
تدعي الحكومة الأمريكية أنها تسعى للإنهاء الكامل.. لأي برنامج نووي إيراني، وأي قدرة لإيران.. على تخصيب اليورانيوم.. بحجة أن إيران سوف تسعى لتجاوز مستوى التخصيب الكافي لاستخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية، وتتجاهل أنها هي التي بدأت بتشجيع إيران – في عهد الشاه – على أن يكون لها برنامجها النووي، الذي كان من الممكن.. أن يمكن إيران من إنتاج قنبلة نووية، ولكن الذي أوقف هذا البرنامج – في السنوات الأولى للثورة الإسلامية في إيران – هو آية الله الخميني.. قائد هذه الثورة، الذي اعتبر أن السلاح النووي.. يخالف تعاليم الإسلام، لأنه يمكن أن يصيب أشخاصاً أبرياء.
ويتصل بهذا التنكر لدور الولايات المتحدة.. في بداية البرنامج النووي الإيراني، أنه لم يثبت – بالفعل – أن إيران كانت في طريقها لإنتاج قنبلة نووية. بل هذا ما شهدت به تولسي جابارد – مديرة مكتب الاستخبارات الوطنية – في الولايات المتحدة؛ وهو الجهاز المسؤول عن تجميع كل معلومات أجهزة المخابرات الأمريكية، وتقديمها للرئيس. وقد اتهمها الرئيس الأمريكي بأنها لا تفهم شيئاً، وهو ما يثبت – مرة أخرى – أننا نعيش في عالم ما بعد الحقيقة؛ عندما لا يعترف رئيس الدولة.. بصحة المعلومات التي تقدمها له أجهزة معلوماته.
بل وذهبت إلى ذلك.. وكالة الأمم المتحدة للطاقة الذرية، بل وحتى إسرائيل.. التي وصفت حربها الأخيرة ضد إيران، بأنها حرب استباقية؛ أي تستبق تطوير إيران لسلاح نووي، والعزم على استخدامه.
والمثل الأخير هنا – على عالم ما بعد الحقيقة – هو نفس التقرير الذي قدمته وكالة الأمم المتحدة للطاقة الذرية، عن انتهاكات إيران لالتزاماتها.. بموجب اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية؛ فهو لا يتعلق بانتهاكات جديدة، بل يتعلق بانتهاكات قديمة.. تعود إلى ما قبل 2003. وهو – بالمناسبة – التقرير الذي اعتمدت عليه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل ومعهما الدول الغربية الثلاث أي بريطانيا وفرنسا وألمانيا.. في اتهام إيران في مجلس الوكالة، وأمام مجلس أمن الأمم المتحدة، بأنها خرجت على التزاماتها.. بموجب هذه المعاهدة.
ما بعد حكم القانون
المظهر الثاني.. على أننا نعيش في عالم المابعديات، هو خروج الأطراف الغربية جميعها – أي إسرائيل والولايات المتحدة، والدول الغربية الثلاث.. التي وقعت الاتفاق النووي مع إيران في 2015 – على حكم القانون. فحتى لو افترضنا أن الحكومة الإيرانية.. قد خرجت عن التزاماتها تجاه الوكالة الدولية، فمن هو المسؤول عن وقف هذا الانتهاك؟
بكل تأكيد ليست إسرائيل، فلم يولها أحد مسؤولية احترام حكم القانون – أي قانون لا في الشرق الأوسط ولا خارجه – كما لم ينصب أحد الولايات المتحدة للقيام بهذه المهمة. والذي يدعو للسخرية.. أنه لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة، تشتهران بالدفاع عن حكم القانون.
بل إسرائيل متهمة بممارسة الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة، وتساندها الحكومة الأمريكية في ذلك، كما أن الاتهامات بانتهاك حكم القانون محلياً ودولياً.. عالقة برقاب كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الأمريكي.
أضيفوا إلى ذلك، أن الحكومة الإيرانية – المتهمة بانتهاك اتفاقية حظر الانتشار النووي – قد وقعت على هذه الاتفاقية، بينما إسرائيل لم توقع عليها، وتمتلك – بالفعل.. حسب مصادر عديدة وموثوقة – قرابة تسعين قنبلة نووية، ولديها مخزون من البلوتنيوم.. يكفي لصنع مائتين أخريين. أي إن الذي يملك قنابل نووية، لا يلتزم بحكم الاتفاقية، ويدعي الدفاع عن نفسه.. في مواجهة دولة انضمت بالفعل إلى الاتفاقية، ولم يثبت أنها تمتلك سلاحاً نووياً، أو تسعى لتطويره.
الخلاف حول نتائج الحرب الأمريكية الإسرائيلية على إيران
وتتوه الحقائق.. فيما يتعلق بنتائج حرب الاثني عشر يوماً، التي شنتها إسرائيل والولايات المتحدة على إيران. الرئيس الأمريكي يقطع بأن غارات الطائرات الأمريكية.. على المنشآت النووية الإيرانية – وخصوصاً في فوردو – قد استأصلت قدرة إيران حتى على تخصيب اليورانيوم، ولذلك لم يعد هذا البرنامج ذا موضوع.. وبالتالي، لن تتطرق له محادثات مباشرة، كان قد دعا إلى إجرائها.. مع الحكومة الإيرانية، بينما لم تستبعد أجهزة استخبارات أمريكية أخرى – وخصوصاً جهاز استخبارات وزارة الدفاع – وشهادات مدير الوكالة بالأمم المتحدة للطاقة الذرية، أن تكون المنشآت النووية الإيرانية قد تعرضت لأضرار كبيرة، ولكن أضافوا أن الغارات الأمريكية والإسرائيلية.. لم تقضِ على قدرة إيران على استعادة العمل في منشآتها خلال شهور. بل أوضح مدير الوكالة.. أنه ربما كانت هناك منشآت نووية إيرانية سرية، لم تتعرض لأي أضرار، فضلاً عن غموض حول ما جرى لأربعمائة كيلوجرام من اليورانيوم المشع (المخصب بنسبة 60%)، خرج من منشأة فوردو.. قبل الهجوم الأمريكي بيومين.
الذي يتفق عليه الخبراء – بما في ذلك أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية – أنه لابد من وقت.. قبل الحكم الصحيح والموثوق، عن نتائج هذه الحرب، وآثارها على العلاقات بين أطرافها. والأرجح، أنه إذا كانت هذه الحرب قد أخفقت في القضاء على قدرة إيران.. في تخصيب اليورانيوم، وأن الحكومة الإيرانية.. يمكن أن تستمر – سراً – في تنفيذ برنامج نووي سلمي، تسمح به اتفاقية حظر انتشار السلاح النووي. فإذا صح ذلك، فإن الاستنتاج هو أن حرب الأيام الاثني عشر، ستكون مجرد فصل أول في قصة النزاع.. حول الطاقة النووية في الشرق الأوسط.
عالم ما بعد الرشادة في الشرق الأوسط
لا تنتظر إسرائيل معرفة نتائج مثل هذا التحقيق، فقد أخذت تتصرف باعتبارها المنتصر في هذه الحرب، وبدأت مع حكومة دونالد ترامب في الولايات المتحدة.. تفصل في معالم الشرق الأوسط الجديد.. كما تراه. تفاخر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بأن هذه الحرب – وما فعلته إسرائيل قبلها بحربها على أنصار إيران في العالم العربي – لم تغير فقط تاريخ الشرق الأوسط، بل تاريخ العالم؛ إذ انتهت.. وإسرائيل – حسب قوله – تخلصت من أخطر سلاح حربي.. في يد أخطر نظام في العالم.
ومن أهم معالم الشرق الأوسط الجديد، امتداد اتفاقات السلام مع إسرائيل.. إلى تسع دول عربية؛ تشمل هذه الاتفاقات – بالإضافة إلى الدول التي وقعت معها بالفعل – ثلاث دول أخرى؛ هي المملكة العربية السعودية وسوريا ولبنان. وقد عبر القادة السعوديون.. عن تحفظهم على التطبيع مع إسرائيل، قبل قيام دولة فلسطينية. ولا يبدو أن نشوة الانتصار التي تعم إسرائيل.. ستفسح المجال لقبول مثل هذا الشرط السعودي.
على أي الأحوال، لا تنتظر إسرائيل موافقة عربية – ولا حتى مباركة أمريكية – قبل أن تواصل مشروعها في رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط. هي ليست متسرعة.. في وقف الحرب والجلاء عن غزة، بل تواصل الضغط على مواطنيها.. بالتجويع، والحصر في مساحة لا تتجاوز 18% من مساحة القطاع، وتمارس جهوداً مماثلة في الضفة الغربية؛ وهكذا فمخطط تهويد الأراضي المحتلة.. جارٍ على قدم وساق، وليس في نيتها الانسحاب من المناطق الخمس.. التي احتلتها في لبنان، ولا المساحات الواسعة التي قضمتها في جنوب سوريا؛ وهكذا فامتداد «الاتفاقات الإبراهيمية» إلى لبنان وسوريا، يعني أيضاً.. بقاء الاحتلال الإسرائيلي في البلدين.
بل إن الأخطر من ذلك، هو الدرس القديم.. الذي كشفت عنه هذه الحرب، وهو أن إسرائيل – بفضل فائض القوة الذي تتمتع به – لن تسمح بتمكن أي دولة في الشرق الأوسط.. من امتلاك القدرات العلمية والاقتصادية والعسكرية، التي تسمح لها بمجاراة إسرائيل.. في مستوى تقدمها العلمي والعسكري والأمني والاستخباراتي والاقتصادي، وسوف تسعى – بكل الطرق – لوأد احتمالات مثل هذا التطور.. سواء كان ذلك في تركيا، أو السعودية، أو مصر، أو إيران.
السلوك الإسرائيلي – في هذا الصدد – يتسم بالرشادة بكل تأكيد؛ فنظريات المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، توضح – بما لا يدع مجالاً للشك – أن غاية السياسة الخارجية لأي دولة، هي تعظيم قوتها ذاتياً، وإضعاف خصومها.
اعتراضه أسرائيل على امتلاك السعودية لبرنامج نووي سلمي.. مؤكد. وتنافسها مع تركيا – في سوريا – قائم، وهي قد لعبت بالورقة الكردية في العراق، وتلعب بها في سوريا الآن، وليس من المستبعد أن تلجأ لذلك.. مع تركيا في المستقبل. والصحف الإسرائيلية، وأصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة.. قد حذروا من مستوى تسليح القوات المسلحة المصرية. وهناك تاريخ معروف.. من نشاط المخابرات الإسرائيلية، ضد برامج التسليح في مصر.. في ستينيات القرن الماضي.
إذا كان سلوك إسرائيل – باستخدام فائض القوة، الذي تتمتع به في الشرق الأوسط – هو سلوك رشيد، فهل من الرشد أن تكتفي الدول الكبرى في المنطقة.. بالوقوف متفرجة على ما تقوم به إسرائيل، من رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط على هواها، دون أن تتحرك هذه الدول.. لتشكيل رادع لإسرائيل، تكون أحد عناصر قوته.. امتلاك سلاح نووي.
باختصار شديد، احتكار إسرائيل للسلاح النووي.. هو مبعث عدم الاستقرار في الشرق الأوسط في الوقت الحاضر. والتوازن النووي في هذا الإقليم، هو الذي يحقق الاستقرار فيه.
أليس ذلك.. هو درس الحرب الباردة الأولى؟
نقلاً عن «الشروق»