عبدالله عبدالسلام..
في عام 1993، حصلتُ على منحة – مع مجموعة من الصحفيين المصريين – لدراسة الصحافة، والتدرب على فنونها.. في الولايات المتحدة لمدة ثلاثة شهور. كانت المنحة ممولة من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. اكتشفنا – خلال فترة الإقامة – أن المرافقين الأمريكيين وأساتذة الجامعات.. الذين قاموا بالتدريس لنا، وحتى الصحف التي جرى تدريبنا فيها.. يحصلون على مقابل مادي نظير ذلك. عندما جمّدت إدارة ترامب -في الأسابيع الماضية – عمل الوكالة، وأوقفت مليارات الدولارات من المساعدات، لم يكن القرار مُضِرًّا فقط بفقراء العالم، بل بعشرات آلاف الأمريكيين.. الذين يشرفون على برامج المعونة المنتشرة عبر العالم.
هؤلاء الأشخاص فقدوا وظائفهم، أو تم إجبارهم على الحصول على إجازات مفتوحة. ليس هذا فقط. مزارعو الغرب الأمريكي الأوسط.. أعربوا عن غضبهم، لأنهم فقدوا سوقًا مهمة لتصريف منتجاتهم؛ حيث كانت الوكالة تشتريها منهم، ثم ترسلها للمحتاجين خارج أمريكا. الأدوية، والأجهزة الخاصة بالرعاية الصحية المقدمة.. أمريكية بالكامل. أحد أهداف تلك المساعدات.. خدمة وتنشيط الاقتصاد الأمريكي. يقول جورج إنجرام – الخبير البارز في مجال المساعدات الخارجية – «نعيش في عالم مترابط.. التجارة والاستثمارات الأمريكية في الخارج، يغذيان الاقتصاد الأمريكي». وزير الخارجية الأمريكية الحالي، مارك روبيو، قال.. قبل أن يتولى منصبه بسنوات:
«المساعدات ليست صدقة، ويتعين علينا أن نتأكد من إنفاقها على النحو الصحيح. إنها بالغة الأهمية لأمننا القومي». «روبيو» نفسه، عاد ليذم المعونات الخارجية، ويقول فيها..«ما قال مالك في الخمر».. لأن ترامب يرفضها. المأساة، أن مسؤولي الإدارة الكبار.. نشروا أكاذيب بشأنها وصدقها أمريكيون. قالوا إنها تمثل 20٪ من الميزانية، بينما لا تزيد على 1٪ فقط.
إيلون ماسك – الملياردير، وأحد أهم مساعدي ترامب – ادعى أن من سوءاتها.. إرسال واقيات ذكرية إلى غزة.. بقيمة 50 مليون دولار، ليتبين أن الخبر كذب بواح.
رسمت المعونات صورة إنسانية وأخلاقية لأمريكا، قوة الخير.. كما تردد الدعاية الرسمية. مشروع «مارشال» – الذي قدمت بموجبه أمريكا عشرات المليارات، لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية – كان أحد أسباب النفوذ الأمريكي الطاغي.. بالقارة العجوز خلال سنوات الحرب الباردة.
شحنات القمح والذرة وغيرها.. التي قدمتها واشنطن للفقراء فى الخمسينيات والستينيات، أسهمت في رسم انطباع إيجابي عنها. هذا الانطباع تشوه الآن. عندما يتعرض مئات آلاف الناس لخطر الموت.. بسبب حرمانهم من أدوية تعالج أمراضًا خطيرة، وعندما تتفاقم أزمات الجوع في أشد المناطق فقرًا.. فإن الثقة في أمريكا تتلاشى. سيحتاج الأمر أجيالًا قبل ترميم الصورة الراهنة.
قوى عالمية أخرى – خاصة الصين – ستملأ فراغ المساعدات. بكين تعمل بالفعل.. في عديد من المناطق؛ خاصة أفريقيا. إذا كانت واشنطن قد نفضت يديها عن مساعدة الفقراء والمحتاجين، فما المبرر الأخلاقي.. الذي يعطيها الحق في تقرير مصير العالم، وابتزازه بالصفقات التي لا تخدم سواها؟!
المعونات سلاح «ذكي»، يحقق مصالح أمريكا، لكن ترامب حوَّله إلى أداة للتشهير بفقراء العالم، واتهامهم بأنهم يسلبون ثروات أمريكا.
نقلاً عن «المصري اليوم»