Times of Egypt

المعضلة العربية.. أطلال وخرائب

M.Adam
مصطفى حجازي 

مصطفى حجازي

في لحظة كتابة هذا المقال، كانت السفينة «مادلين» تشارف السواحل المصرية الشمالية.. على بُعد أميال قليلة من غزة.. بغرض كسر الحصار عن الشعب الفلسطيني الذبيح في داخل القطاع.

كانت «مادلين» تبحر وعلى متنها اثنا عشر ضميراً حياً. تقود الرحلة الشابة السويدية «جريتا ثونبرج» – التي لا يتجاوز عمرها اثنين وعشرين عاماً – ويشاركها في تلك الرحلة المقدامة.. أحد عشر ناشطاً؛ جميعهم من حملة الجنسيات غير العربية. حتى من غير ذوي الأصول العربية. تحرك أسطول الحرية.. مواجهاً كل الاحتمالات.. مع آلة قتل إسرائيلية لن ترتدع عن الإجهاز عليهم جميعاً، ولكن يبقى أنهم يؤمنون بأن ديناً إنسانياً في أعناقهم – لا تحتمل ضمائرهم تأجيله – بات واجب الوفاء.

وفي الأسبوع الأول من يونيو الجاري.. وقف مواطنون بريطانيون –  وأعينهم غارقة في الدموع – لأكثر من ثماني عشرة ساعة.. أمام البرلمان، يقرأون – دون انقطاع – أسماء خمسة عشر ألف طفل فلسطيني.. قتلتهم إسرائيل، وهي تقتل فوق الخمسين ألف فلسطيني أعزل. من وقفوا هم من غير العرب، يستحثون ساستهم من غير العرب، ومن داخل معقل الحكم واتخاذ القرار في بريطانيا!.

وأخيراً.. تقف «فيكتوريا روز» – الجراحة البريطانية – متطوعة داخل مجمع ناصر الطبي في غزة منذ أيام.. لتتحدث عن «مجزرة» يقترفها الاحتلال في مراكز توزيع المساعدات، التابعة لمؤسسة غزة اللقيطة.. وعن ضحايا حروق من المدنيين صار علاجهم مستحيلاً.. «فيكتوريا» – غير العربية – معرَّضة للقتل في أي لحظة من أجل أن توفي حق ضميرها الإنساني ومن أجل فلسطين العربية وشعبها..!.

تلك المشاهد الثلاث، هي غيضٌ من فيضٍ كثير.. تحركت فيه الضمائر الحية.. لبشر حي.. في مجتمعات حية.. وشعوب حية انتصاراً للإنسانية.. ولبشر ليس من عرقهم ولا دينهم ولا قوميتهم. لست مزايداً هنا، على مشاعر كثير من أصحاب الضمائر الفرادى أو شظايا التجمعات في الشعوب العربية.. ولكن الحقيقة – التي لا نملك منها مراوغة ولا نملك لها تجميلاً – هي أن الوعي – قبل الفعل – العربي المبادر.. بات ذاهلاً تائهاً مصادراً مؤثماً.

لم يُقدم أي من هؤلاء النشطاء غير العرب.. على الوفاء بحق ضمائرهم – والاستنفار لنصرة قضايا إنسانية كبرى لشعوب ليست منهم وليسوا منها – لكونهم بشراً أرقى.. أو لكونهم على فطرة مغايرة لما فُطرنا عليها. ولم تحملهم نفوسهم على خوض المواجهات بل والمهالك.. لمجرد أنهم وُلدوا هكذا. ما أعان هؤلاء على الترقي بضمائرهم ونفوسهم، هو مجتمع أراد الإنسانية وجهته، وأراد الحرية حجة على عقله ووعيه وفعله، وأراد العدل والكرامة أُطراً لمؤسساته وحياته.

تعلّم كل من هؤلاء.. في شوارعهم قبل مدارسهم، أنه إنسان مُكرَّم.. ليس من حق مجتمع أو سلطة أن تقهر فكره، أو وعيه أو معتقده أو مبادرته.. تعلَّم أن يحترم القانون ويمتثل له، ما دام القانون يحترم إنسانيت،ه ويحض على كرامته، ويضمن حريته، ويقيم العدل فيه وفي غيره سواء بسواء. تربَّى هؤلاء على أن قهر الفكرة في النفوس.. مجلبة للنفاق والشطط. وأن مجتمعاً أبناؤه.. بين «منافق»، يواري ما في نفسه.. درءاً للعنت والعقاب واستجلاباً للمنفعة، و«مشتط» يحمل الكراهية والسخط بين ضلوعه، يتحين لحظة إنفاذهما.. هو مجتمع هالك مخلخل القواعد مهما بدا هادئاً متماسكاً.

عرفت حكومات هؤلاء.. أن كل قهر للمنطق باسم الوطن، هو عين الوطنية الكذوب، بل هو عين الخيانة. كما عرفت أن الدياثة في الشأن العام، والتفريط في الاحتساب على القائمين عليه.. بدعوى إيثار السلم المجتمعي ودرء الفوضى، هي توطيد للفساد، وشرعنة للجهالة، وتضييع للوطن بالفوضى.

جرى الاصطلاح.. عند دراسة شأن جماعة أو شعب وتحديات تخصه، على تسمية ذلك بـ«المسألة» أو «المعضلة»؛ فمن «المسألة اليهودية».. التي عُنيت – ومنذ القرن الثامن عشر – بنقاش: كيف ليهود أوروبا أن يتجاوزوا تحديات ثقافتهم الدينية وأعرافهم، التي أحالتهم إلى جماعة منبوذة مقيتة.. غير قادرة على التعايش. إلى «المعضلة المصرية» – التي تضمَّنها كتاب «تيودور روتشتاين» الصادر عام 1910 – بعنوانه الأصلي «الأطلال المصرية» أو «الخرائب المصرية»، الذي عرض فيه دراسة نقدية عميقة للآثار الكارثية للاحتلال على مصر.. من قمع وقهر وسُخرة وجباية.. واستنزاف إنساني.

إلى ما نحن بصدده من «معضلة عربية».. نرى فيها حصاراً وتأميماً، ومصادرة لضمير ووجدان المواطن العربي، الذي أورث الحالة العربية تبلداً.. يقارب دياثة الضمير حيال القضايا الإنسانية بل والعربية؛ بدعاوى العقلانية والواقعية والبراغماتية ومخاصمة الشعارات. إن مجتمعاً عربياً –  أياً كان موطنه من محيط إلى خليج – مبتور الروح، متصحر النخوة، مقتلع الضمير.. ليس بمجتمع ساكن مستقر، قادر على إقرار أمن أو استجلاب تنمية. إن البقاء بين «أطلال وخرائب» الروح العربية، والإمعان في الإبقاء عليها.. لن يديم مُلكاً، ولن يعد مستقبلاً. فـ «الأرواح المبتورة.. لا تبني وطناً، ولا تقيم دولة، ولا تقود حضارة»..

فكِّروا تصحُّوا..

نقلاً عن «المصري اليوم«

شارك هذه المقالة