زياد بهاء الدين..
منذ سبعينيات القرن الماضي، ظهرت – في مجتمعنا – أعداد متزايدة من المصريين، الذين دفعتهم ظروفنا الاقتصادية المتواضعة.. مع الرخاء الذي كان بدأ يظهر في ليبيا ودول الخليج، للسفر إلى الخارج والعمل بضع سنوات.. من أجل توفير الأموال اللازمة لتحقيق نقلة في حياتهم الاجتماعية، أو لتلبية مطالب كبرى. ومع الوقت، تحولت هذه الظاهرة إلى واحد من أهم أعمدة اقتصادنا القومي، وأكبر بند في حصيلة مصر من العملة الأجنبية، وهو بند «تحويلات المصريين العاملين في الخارج». وقد أصبح يتجاوز في السنوات العادية.. ما نحصل عليه من رسوم قناة السويس، وعوائد السياحة.. مجتمعين؛ حتى قبل انخفاض حصيلة القناة بسبب العمليات العسكرية الحوثية.. تجاوز هذا البند عام 2024 ثلاثين مليار دولار، وهو رقم قياسي، تحقق بعد تحرير سعر الصرف.
والحقيقة أن أثر تحويلات المصريين في الخارج، لا يبدو فقط في ميزان المدفوعات، بل في كل مظاهر حياتنا الاقتصادية. وفي رأيي أنه كان – ولا يزال – الداعم الرئيسي لملايين الأسر المصرية.. خلال فترات الأزمات الاقتصادية، وارتفاعات الأسعار، وغياب فرص العمل. وهي فترات كثيرة مرت علينا خلال الخمسين عاماً الماضية. وقد مثَّلت هذه التحويلات – لغالبية البيوت المصرية – شبكة الحماية الاجتماعية الحقيقية (قبل أن يصبح المصطلح معروفاً)؛ سواء كانت بضعة دولارات أو ريالات، تصل إلى أسرة المسافر في قرية نائية.. نقلاً باليد، وتنقذها من تقلبات الحياة والعوز، أو عشرات الآلاف الواردة عبر الجهاز المصرفي.. لشراء عقار أو بدء نشاط استثماري، أو غير ذلك.
ومع الوقت، بدأت التحويلات ترد أيضاً من الأردن والجزائر، ثم في موجات تالية من أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا. ولا أظن أن بيتاً أو أسرة أو قرية مصرية.. لم تتأثر بشكل مباشر – أو غير مباشر – بهذه الشبكة الاجتماعية لسنوات وعقود طويلة.
وبالمناسبة، فإن مصر ليست البلد الوحيد الذي اعتمد على تحويلات العاملين والمهاجرين.. لتجاوز أزماته الاقتصادية، بل هكذا كانت أحوال لبنان في أوقات الحروب الأهلية، وانهيار الدولة المركزية، والعملة والنظام المصرفي، وهكذا لا يزال حال السودان، واليمن، وسوريا.. وحتى غزة.
طبعاً الدولة تدخلت.. أحياناً بأشكال مفيدة؛ مثل الإعلان عن تيسيرات جمركية، أو تشجيع إجراءات مدنية، وأحياناً بتدخلات ضارة؛ مثل القانون الذي صدر في ..1994 بفرض ضريبة على دخول المصريين في الخارج، ولكن – لحسن الحظ – قضت المحكمة الدستورية عام 1999 بعدم دستوريته.
■ ■ ■
ما سبق مقدمة طويلة.. في وصف الأثر الاقتصادي الإيجابي لتحويلات المصريين في الخارج، خلال الخمسين عاماً الماضية، التي – كما قلت – شكلت شبكة الحماية الاجتماعية الحقيقية والمستمرة.. خلال الأزمات والثورات والتقلبات وموجات الغلاء والبطالة.
مقدمة لموضوع آخر – أرى أنه في بدايته، وقد يمثل الظاهرة الجديدة.. التي لن تقل شأناً – إذا ما أحسنا استغلالها – وهي ما أسميه بظاهرة «المصريين العاملين في الداخل».
ولا أعنى بذلك طبعاً.. كل من يعمل داخل مصر؛ فكلنا من المصريين العاملين في الداخل.. بالمعنى الحرفي. ما أقصده، هو إلقاء الضوء على أهمية من يعملون مع جهات وشركات ومكاتب خارجية، ولكنهم – بدلاً من السفر إلى بلدان أخرى والاستقرار فيها والسكنى – يبقون في مصر، ويعملون بشكل مستقر ودائم؛ سواء من منازلهم، أو من مكاتب مخصصة لهذا الغرض. وبفضل تقنيات الاتصال الحديثة، يمكنهم الانخراط في أعمال الشركات والمكاتب – التي توظفهم – وهم باقون في مصر؛ بالضبط.. كما لو كانوا سافروا وانتقلوا إلى مقار العمل بالخارج.
ظاهرة ليست جديدة، ولكن متصاعدة. وفي تقديري، تمثل اتجاهاً بالغ الأهمية، ولكن – مرة أخرى – لو أحسنا فهمها، وتشجيعها، والتعامل معها.
وهذا أتركه لمقال الأسبوع القادم.. كيف نستفيد من تنامي ظاهرة المصريين «العاملين في الداخل»؟
نقلاً عن «المصري اليوم»