أمينة خيري
في رحلة الإبقاء على الصحافة الحقيقية حية تُرزق، لم نلجأ إلى الحلول المستدامة. وإنما لجأنا إلى المسكنات.. التي هي مهيجات تنافس المحتوى الساخن في الـ«سوشيال ميديا»، المعتمد على النقر السريع، والتصفح الأسرع.
فأغلب سكان الأرض.. باتوا يتلقون جرعاتهم الإخبارية من الـ«سوشيال ميديا»، والتظاهر، أو الادعاء، أو الإصرار.. على أننا سنُبقي على متلقي الأخبار من منصات الإعلام الحقيقي، ما هو إلا دفن للرؤوس في رمال العصر الرقمي المتحركة.
الحقيقة، هي أن الإبقاء على المتلقي الرصين – الباحث عن شرح أو تحليل عميق، ورؤية شاملة لحدث أو قضية ما.. تستعرض كل الأوجه والزوايا – هو طوق نجاة الصحافة. قد يحدث ذلك عن طريق تقرير مكتوب بحرفية، ومتاح «أوديو» أو مسموع، أو بودكاست مصنوع بمهنية، أو فيديوجراف أو إنفوجراف جذاب.. إلخ. ويبقى الحوار الرصين – الخاص بالصحيفة أو القناة والخبر الحصري، وغيرهما – باباً صحفياً تقليدياً مفتوحاً أمام الصحافة.
مرة أخرى، للحوار الصحفي أصول، وليس «ما شعورك تجاه كذا؟» أو «كل تكلفة بدلتك أو فستانك؟»، والخبر ليس «مَن حضر جنازة مَن؟» أو «انظر ماذا فعلت الفنانة طليقة الفنان، حين رأت الفنان طليق الفنانة».
ستظل هذه النماذج من «الصحفيين» و«المتلقين» موجودة، لكن – على الأقل – ينبغى طرح شكل ومحتوى آخر، يحملان معنى ومضموناً.
لقد تم ربط «تتفية» المحتوى من التفاهة.. بأربعة عوامل: البحث عن الانتشار لضمان الربح، ضعف مستوى الأجيال الأحدث من الصحفيين (علاقة وثيقة بتدهور التعليم، وضيق أفق الثقافة، واقتصارها على الثقافة الدينية.. إن وُجدت)، جمهور أقل رغبة فى الاطلاع والمعرفة، (يطل تدهور التعليم وضيق أفق الثقافة مجدداً)، وديمقراطية واهية.
ما سبق لا يمكن حله عن طريق الارتقاء بمستوى الصحافة، أو الإبقاء على جودة المحتوى، أو إغلاق منصات الـ«سوشيال ميديا»، أو غيرها من الأساليب العنترية أو الوهمية. ليست هناك وصفة سحرية، ولاسيما أن الأمر لا يقتصر على الارتقاء بمستوى المحتوى وصانعيه فقط.
الصحافة الحقيقية، أى تلك التى تتحرى الدقة وتتبع حدًّا أدنى من المعايير المهنية، تحتاج الكثير: نظرة واقعية إلى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة؛ إعادة النظر فى مبدأ «الجمهور عاوز كده» والعمل على إصلاح أوضاع الجمهور التعليمية والثقافية، إذ ربما يسفر ذلك عن رغبات مختلفة للجمهور حتى لا ينزلق الجميع فى بالوعات «نجم الشباك»؛ ضرورة تعديل أو تغيير نماذج ملكية المؤسسات الإعلامية، إعادة النظر فى إعداد ومحتوى كليات الإعلام؛ مصائر آلاف «الصحفيين» من المرشحين للانضمام إلى قوائم العاطلين؛ النظر بعين الاعتبار لا التسويف إلى مسائل مثل الذكاء الاصطناعى، دراسة ظاهرة المؤثرين فى الأخبار، فهم الميل العام إلى الفيديوهات متناهية القصر؛ الدفع مقابل القراءة أو الاطلاع ليس ضمن النماذج القابلة للتطبيق فى مصر، بعد.
داهمنا الوقت، ومستقبل الصحافة بدأ أمس، ومعه تحديد الاختيارات، بعد معرفة الخيارات المتاحة، لا المحلقة فى الفضاء.
نقلاً عن «المصري اليوم»