أحمد الجمال
في حديث «البشر قبل الحجر» و«إدارة الفقر.. وإدارة الثروة» الذي بدأته في مقال سابق، قلت إنها عبارات براقة.. سيقت على لسان وقلم البعض، وكانت الأولى لانتقاد وإدانة منهج النظام الحالي فى التنمية، وجاءت الثانية لانتقاد وإدانة منهج الحقبة الناصرية في التنمية أيضا، وقدمت بعض ما عندي من ملاحظات.
وأستكمل بأن الاسترسال الذهني حول حكاية البشر والحجر، يجعلنا نقرأ مجددًا العلاقة بينهما، لنكتشف – أو بالأصح أكتشف – أن الله سبحانه وتعالى أوجد الحجر قبل وجود البشر، وهيأ الكرة الأرضية ماديًا لسكنى الكائنات الحية.. بما فيها البشر، وأكتشف أنه لولا الحجر لما تقدم البشر، ولما قامت مدنيات إنسانية، ولظل البشر أسرى مرحلة الجمع والالتقاط – أي من اليد إلى الفم – من مراحل الحضارة الإنسانية.. لأن بحث الإنسان عن الأمان والسكينة.. بعيدًا نسبيًا عن المخاطر المحيطة؛ جعله يلجأ للكهوف «الحجرية»، التي حمته من سطوة الطقس، برودة وحرارة وعواصف وبرقًا وأمطارًا وفيضانات.. ومن الحيوانات المفترسة، وفيها عرف النوم العميق واحتضان الرفيق ورعاية الصغير، وانتعشت الملكات الكامنة؛ فاستخدم شظايا الحجارة المدببة، فى نحت ورسم الأشكال التي اختزنتها ذاكرته.. على جدران وأسقف الكهف.
وربما – وهو يسعى لجعل الأحجار مدببة بالاحتكاك – تولدت الشرارة الأولى للنار، فعرفها بعد أن لاحظ نشوبها في الغابات والأحراش.. بفعل احتكاك فروع الشجر أو نزول الصواعق، ثم صنع من الحجر أسلحته البدائية؛ كرؤوس السهام والرماح. ومن التعبير عن مخزون ذاكرته وخيالات مخيلته – بالرسم على جدران الكهف – توصل لرسم ما اعتبر حروفًا تحولت إلى أبجديات لغوية، وتكونت لغات في مناطق مختلفة.. سجلت على ألواح الحجارة، وما كان لحضارات مصر القديمة وبابل وجنوب الجزيرة العربية وغيرها.. أن تعرف وتفك رموزها، ويؤرخ لها، إلا بفضل الحجر الذي احتفظ باللغة والنقوش!
وتطورت العلاقة بين البشر والحجر، فبنى مساكنه وأهراماته ومقابره وسدود تنظيم المياه.. ولم يكن صدفة أن تبدأ العصور البشرية بالعصر الحجري ومراحله.. إلى أن توصل الإنسان لاستخراج المعادن من الأحجار، بعد أن توصل بالعلم إلى التمييز بين الجيري والناري، وما هو حديد أو فوسفات أو منجنيز وغير ذلك.. فهل بعد ذلك، أن يضع أحد البشر والحجر فى مواجهة ومفاضلة، وكأنهما خصمان لا يجوز أن يلتقيا، ويبدو في السياسة أنه يجوز!
ثم إنه يبدو أن إحن السياسة وحرتكاتها، وخصوماتها غير المبررة، تجعل البعض يتفنن في صك عبارات مماثلة.. كان منها عبارة «إدارة الفقر.. وإدارة الثروة».
وقد كشفت فى مقال سابق عن فقرها المعرفي، وزيف مضمونها، رغم لمعان مظهرها، وأشرت إلى أن تلك الحقبة – التي أراد صاحب العبارة إدانتها وتشويهها.. رغم أنه من إنتاجها – ربما لم تتمكن.. لظروف عديدة؛ منها ما شاب تطبيقاتها من أخطاء.. من تحقيق الرفاهية الكاملة أو الوفرة المادية، ولكنها بالقطع نجحت في إدارة الثروة البشرية وتأهيلها، ونجحت في توسيع وتعميق الثروة العلمية والثقافية، وأيضًا ثروة الموقع وإدارة الدور المصري فى دوائر حركته.
ثم قلت إن مراحل تالية لم تُدِر الثروة.. بقدر ما أدارت الإثراء. وهذا ليس تلاعبًا بالألفاظ، ولا محاولة لصك عبارة إضافية؛ لأنه عادة ما ينصرف معنى الإثراء.. إلى السعي لتحقيق وحيازة مظاهر الثراء المالي والعقاري، والترفيه بغير الطرق المشروعة، وهذا ما حدث منذ صك الراحل الموقر الدكتور رفعت المحجوب.. مصطلح «القطط السمان»، وصك الراحل المحترم أحمد بهاء الدين «انفتاح السداح مداح».
ولا أريد أن أستطرد، لأصل إلى قوائم الذين أثروا.. لأنها مفجعة، ولكنني أتوقف عند ما أعتبره «المسألة العويصة».. في سياق إدارة موارد الوطن، والكشف عن ثرواته، واتخاذ مناهج علمية وعملية سليمة.. لكي نحقق مجتمعًا يتمتع أفراده – وجماعاته وطوائفه وطبقاته – بحقوق مواطنة كاملة، وبحقوق حياة متكاملة اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا وخدميًا، تكفل إطلاق الطاقات كلها؛ الفردية والمجتمعية.. تحت سقف دستوري وقانوني، لا يمكن السماح لأحد بتجاوزه.
والمسألة العويصة.. هي كيف نحقق ذلك الهدف، وفي الوقت نفسه.. لا نسمح باستفحال غرائز التملك والاستحواذ والإثراء والسيطرة، وأيضًا استفحال الظلم الاجتماعي وفحش الاستغلال، والتفاوت في المستويات الاقتصادية، أو كيف نحقق ما يسميه البعض بالحماية الاجتماعية؟
وهي مسألة عويصة، لأنها لم تجد حلًا.. منذ اتجهت مصر إلى اقتصاد السوق.. على عهد الخديو سعيد. وتلك قصة أتعرض لها فى مقال مقبل.
نقلا عن «المصري اليوم»