زياد بهاء الدين
اضطرّتني ظروف السفر.. لمتابعة التطورات المتلاحقة في سوريا خلال الأسابيع الماضية من خارج مصر، والتمهل في الكتابة عنها لحين العودة؛ نظراً لتلاحقها المتسارع، وعدم دقة الكثير من الأخبار المبكرة المنشورة عنها.
التمهل سببه أيضاً.. أن سقوط الحكم في سوريا – في تقديري – أخطر تطور تشهده الساحة العربية منذ سنوات طويلة، وأظنه سيكون أبعدها أثراً، ليس فقط على الدولة والمجتمع السوريين، وإنما على المنطقة بأسرها.
هذه لحظة فارقة – ليس لأن حكماً سقط، وجيشاً انسحب، أو أن رئيس دولة كان الناس يخشون سيرته وبطش أجهزته صار مرة واحدة لاجئاً منبوذاً – بل لأن الحكم الذي سقط، كان واحداً من أشد الأنظمة العربية والعالمية استبداداً بالسلطة، وبطشاً بشعبه، وقمعاً للحقوق والحريات، حتى بالمعايير المتواضعة للوطن العربي.
مع ذلك، فإن المخاوف كثيرة ومشروعة، ويمكن إجمالها في الخمسة الآتية:
أولاً: إن وراء التغير السريع والمفاجئ في المشهد العسكري، ونجاح قوات «هيئة تحرير الشام» في التقدم على الأرض.. تدخلاً أجنبياً أكيداً، ومساندة تركية، والأرجح أنها مدعومة من دول وأجهزة استخباراتية أخرى، اتفقت على وضع نهاية لحكم بشار الأسد، وبدونها.. ما كان نظامه انهار، وجيشه انسحب بهذه السرعة.
ثانياً: إن «هيئة تحرير الشام» – مهما غيرت اسمها وعدلت خطابها – إلا أنه من الصعب تجاهل أن بدايتها.. كانت عام 2012، باسم «جبهة النصرة» – التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية – ثم صارت تابعة لتنظيم القاعدة.. من 2013 إلى 2016. ثم – لعامين تاليين – أخذت مسافة من تنظيم القاعدة، واتخذت لنفسها اسم «جبهة فتح الشام»، وأخيراً.. من عام 2017، اندمجت مع فصائل إسلامية مسلحة أخرى.. تحت اسم «هيئة تحرير الشام». لهذا يصعب قبول أنها – بعد إسقاط نظام الأسد – لن تسعى للاستئثار بالسلطة، وفرض نفسها وتوجهاتها على المجتمع. ومع ذلك، فعلينا انتظار ما تفعله على الأرض.. لعلها تتخذ اتجاهاً غير ما يتوقعه الناس.
ثالثاً: إن الانتصار في معركة عسكرية شيء، بينما السيطرة على أدوات الحكم شيء مختلف تماماً. الجبهة انتصرت عسكرياً على الجيش السوري، وتقدمت بسرعة في «إدلب» و«حلب» و«حمص».. حتى وصلت «دمشق».. فى أيام قليلة. أما ممارسة الحكم، فتحتاج تحكماً في أجهزة بيروقراطية، وموارد مالية، وتدفقات غذائية، وتشغيل المرافق، وتوفير الأمن، وتعاملاً مع الجماهير، وقبل ذلك.. مواجهة تيارات وفصائل معارضة – أو حتى موالية – لها توقعات وطلبات. وهذا كله.. لا يزال غير واضح، ويهدد قبضة «الجبهة» على السلطة والحكم، كما يهدد البلد بالفوضى.
رابعاً: إن هناك خشية من أن سقوط حكم عائلة الأسد.. بداية لتفكك الدولة السورية؛ سواء تحت وطأة الطائفية الداخلية.. وصراعاتها المؤجلة، أم بسبب المطامع التركية والإسرائيلية.. في اقتطاع مساحات حدودية، واحتلالها لآجالٍ غير معلومة.
أما خامساً: فإن بعض المعلقين.. من التيار القومي بالذات، أعربوا عن تخوف أن يؤدي سقوط نظام الأسد، إلى خروج قوة مناهضة للنفوذ الإسرائيلي من المشهد، وتغيير في موازين القوى لصالح إسرائيل، وبالتالي إضعاف جبهة المقاومة العربية.
***
قد نتفق أو نختلف.. على هذه المخاوف الخمسة، (وأنا شخصياً لا أتفق معها جميعاً.. بل أسردها). ولكن يجب البدء بإدراك أنها مخاوف مشروعة، ولا يصح تجاهلها.
ولكن رغم ذلك، فإن الاستبداد لا يمكن أن يكون بديلاً مقبولاً، ولا يمكن الاعتماد عليه.. لتحقيق أي نتيجة إيجابية. وهذا ينطبق على سوريا وعلى غيرها.
فالاستبداد لا يصنع وطناً، ولا يحمي أرضاً، ولا يدافع عن هوية، ولا يقاوم مستعمراً، ولا يؤسس للتنمية. بل نجاحه الوحيد.. هو السيطرة على الحكم، وإزاحة المعارضين، ودعم الفساد، والاستئثار بالثروات.
الوضع السوري بالغ الخطورة، وتداعياته سوف تصيبنا جميعاً. ولكن دعونا لا نتصور أن الاستبداد.. هو الحل، ولا الحماية، ولا الاستقرار، ولا إعلاء شأن القومية العربية والانتصار للشعب الفلسطيني. بل هو المصدر الحقيقي لكل الأمراض.. التي تعاني منها مجتمعاتنا.
قلوبنا مع الشعب السوري الشقيق.. أولاً وقبل أي شيء.. في هذه الظروف العصيبة والمرحلة الدقيقة، وعلينا احترام اختياراته وأولوياته، ومساندته لكي يعبر هذه الظروف العصيبة. وأول المساندة يخص أشقاءنا السوريين في مصر.
فإن كانت مصر قد رحبت بهم.. في وقت المحنة، وفتحت لهم أبواب العمل والحياة الطبيعية والمعيشة، فإن محنتهم لم تنقضِ، ووجودهم يجب أن يكون محل ترحيب مستمر.. لأن وطنهم سوف يمر بتجارب ومراحل عصيبة، وعلينا مساندتهم الآن.. أكثر مما كان سابقاً، وهذه تكون العروبة الحقيقية والتضامن الإنساني مع أشقائنا.
نقلاً عن «المصري اليوم»