نبيل عبدالفتاح
في ظل تاريخ الأديان السماوية، وتطوراتها اللاهوتية والفقهية، وسردياتها التاريخية المتعددة.. تأسست المذاهب الدينية، ومعها سردياتها حول المقدس، وتاريخ كل رسالة، والأنبياء والرسل، ورموز كل ديانة ومذهب . تنامت هذه السرديات التاريخية الوضعية.. مع تطور كل مذهب وكتابات اللاهوتيين والفقهاء التى تركزت على إبراز المعالم الخاصة لكل مذهب.. في تفسيراته وتأويلاته للمقدس وللكتابات الموروثة حوله، ثم إبراز السمات المائزة له عن المذاهب الأخرى، ثم وضع الضوابط والحدود بين النظام المذهبي العقدي والتأويلي، وبين غيره من المذاهب الأخرى داخل ذات الدين.
لا شك أن التبلورات المذهبية وتوظيفاتها، كانت جزءاً من الاستخدامات السياسية في كل عصر من الحكام لليهودية والمسيحية والإسلام.. في عديد المراحل التاريخية. وعلى الرغم من محاولات إيجاد بعض التوافقات المشتركة – حول مفاهيم الألوهية والعقيدة والطقوس الدينية – فإن غالب هذه المساعي كانت تبوء بالفشل.. في العديد من الأحيان، أو محاولات الغلاة داخل بعض المذاهب.. تعطيلها، بل اتهامها بالنزعة الهرطوقية أو التكفيرية؛ بمقولة الدفاع عن الدين وصراطاته المستقيمة.
لم تقتصر دوافع التمذهب على الجوانب اللاهوتية والفقهية فقط، وإنما كانت – في غالب الأحيان – جزءاً من الخلط بين السياسة والمذهب، بالإضافة إلى دفاع مُنظري ولاهوتيي وفقهاء كل مذهب.. عن سردياتهم الموروثة حول المذهب، وتأويلاتهم لها، وإنما لأسباب تتصل بتكريس سلطاتهم الدينية على التابعين للمذهب.. فرادى وجماعات.
من هنا نستطيع – على نحو مقارن – تحديد أسباب التمذهب الديني داخل الديانات السماوية على النحو التالي:
– تتناسب النزعات للتمذهب اللاهوتي والفقهي.. من السرديات الوضعية حول المقدس، وعمليات التأويل والتفسير الديني. ومع تراكم بعض هذه التفسيرات الوضعية، يتم إنتاج المذهب الديني؛ خاصة في ظل بعض التوظيفات السياسية للحكام تاريخياً، أو الميل إلى التعاضد والتضامن داخل الجماعة إزاء الجماعات الأكبر.
– قيام الجماعة المذهبية اللاهوتية والفقهية وكبار اللاهوتيين والفقهاء.. بإقامة السياجات والحدود بين كل مدرسة لاهوتية وفقهية حول المذهب.. إزاء المذاهب والمدارس الأخرى، حيناً بصرامة، وحيناً آخر على نحو نسبي، كما في فقه الجمهور السني الإسلامي. في بعض الأحيان تتداخل السياسة وتحفيزات بعضهم في تبني اتجاه دون آخر؛ كالصراع بين المعتزلة والأشعرية وهجوم الفقهاء الكبار على المعتزلة – الإمام أحمد بن حنبل والأشعري والباقلاني والبغدادي والجويني والغزالي وابن الراوندي – واختيار بعضهم لأحد المذهبين دون الآخر .
– الجمود في الفكر اللاهوتي والديني، الذي يؤدي إلى تصدي المحافظين، والغلاة من داخل المذهب.. لأي محاولات للتجديد اللاهوتي أو الفقهي.
– مع التطورات التاريخية والاقتصادية والسياسية، تشكلت الجماعات المذهبية ومُنظروها. وفي العصر الحديث باتت المذهبية جزءاً من مكونات هوية الجماعات المُتَخيّلة، لا سيما في المنطقة العربية، القائمة على التعدد الديني والعرقي… إلخ داخلها. لا شك أن ظواهر التمذهب الديني المسيس أسهمت نسبياً في الجمود الفكري، لكن مرجعه أن التشدد والصرامة جزء من الهيمنة الرمزية والفعلية على التابعين للمذهب، ويسهم التشدد المذهبي في الحفاظ على الهيراركية -التراتبية – داخل هيكل السلطة المذهبية لبعض رجال الدين.
الوظائف السابقة للتمذهب الديني.. في بعض توظيفاته السياسية، كانت جزءاً من النزاعات اللاهوتية والسياسية حول السلطة الدينية والسياسية.
في ظل تطورات وتحولات المذاهب الكبرى ثمة سؤال ما حول دور المذهبية الدينية، في الصراع الدولي في العصر الحديث، لا سيما عقب الحرب العالمية الثانية.
أدت الحرب العالمية الثانية، والظهور القوي للإمبراطورية الفلسفية الماركسية، والكتلة السوفيتية.. في مواجهة ما سُمِّي بالعالم الحر، إلى صراعات أيديولوجية بين الماركسية اللينينية والستالينية، والماوية – بعد ذلك – وبين الليبرالية الغربية، وإلى توظيف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها.. الدين والمذهب وحقوق الإنسان، في مواجهة النزعات الفلسفية والسياسية الماركسية.. حول الدين والقانون والحق والدولة.
في هذا السياق الدولي، والأيديولوجيات المتصارعة، بات الدين/المذهب.. أحد مصادر الحرب الباردة أو الحرب الناعمة الأيديولوجية والفلسفية، وجزءاً من السياسات الخارجية الأمريكية والبريطانية والغربية.. تجاه الكتلة الاشتراكية، وحركات التحرر الوطني، وعدم الانحياز في العالم الثالث.. آنذاك، وخاصة في المنطقة العربية؛ مصر والعراق وسوريا على سبيل المثال.
وتوالت مع تحولات عصرنا – خاصة مع الحرب الباردة ونهايتها – بعض مظاهر التجدد النسبي في اللاهوت الكاثوليكي، تمثل في استيعاب لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا وآسيا فيما بعد المجمع الثاني، وهو ما يمثله قداسة البابا الحالي فرنسيس – السادس والستون بعد المائتين من باباوات الكنيسة – ونزعته الإنسانية، والعدالية والحوارية المنفتحة، وتحولات مفهوم الحرية وتجسداته السلوكية الراهنة وبعض مآلاتها المتوقعة.
التمذهب الديني وتوظيفاته السياسية بات يخضع للإمكانات والقدرات.. على التجدد اللاهوتي والفقهي، وبناء الجسور والموحدات المشتركة بين المذاهب.. حول الدين الجامع لها؛ والأهم الانفتاح على الآخر الديني.. أياً كانت ديانته ومذهبه، أو من هم لا أدريون أو إلحاديون وعدميون، على نحو ما تم في الفاتيكان الثاني، ولاهوت التحرير، وأيضاً المسعى الجاد نحو بناء القيم الإنسانية المشتركة.. الجامعة بين الأديان، كما تجلى في وثيقة الأخوة الإنسانية بين الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، والبابا فرنسيس، ووراءها سعي الإمام الأكبر لتجاوز الخلافات المذهبية الإسلامية.. نحو المشتركات والقيم الدينية الفضلى.
نقلاً عن «الأهرام»