نبيل عبدالفتاح
فتحت ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، المجال العام الرقمي الوطني والمحلي والإقليمي، والكوني – إذا ساغ التعبير- واسعاً أمام الجموع الرقمية الغفيرة، للتعبير عن آرائها السياسية والشخصية، وانطباعاتها المرسلة، وأكاذيبها، وأوهامها.. في كل تفاصيل الحياة اليومية والشخصية، وتجاه السلطات السياسية الحاكمة على نحو انفجاري. وأدت إلى حالة من المتاهة الرقمية، وانكشافات واسعة النطاق والمجالات، على نحو أصبحنا معه.. أمام حالة من التعري للجموع الرقمية الغفيرة (لشخوصها وذواتها)، على نحو يمكن أن تطلق عليه «السعي الشخصاني».. نحو إثبات وجود الذات في العالم، ومحاولة جذب اعتراف الآخرين بوجودهم.
هيمنة صخب الجموع الرقمية الغفيرة، ترتكز على الولع بالحضور الذاتي في الحياة.. من خلال الصور الذاتية، في كل أحوال وتفاصيل السياسة والحياة، بات الملمح الرئيس في كافة وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال انفجار خطابات المنشورات والتغريدات، وخطاب الصور الذاتية، والفيديوهات الطلقة الوجيزة، وفائقة السرعة.
السؤال: ما تأثير هذه الظاهرة الرقمية.. على مفهوم الحريات العامة السياسية والدستورية.. في المجتمعات العربية، والواقع الموضوعي في هذه البلدان؟
أدت إلى حالة من بعض الفوضى الرقمية، وفي ذات الوقت غلبت عليه الذات وتفاصيلها، ورغباتها ومشهدياتها، بل وانكشافاتها على الحياة الرقمية ومعها خصوصياتهم، وإلى حالة من التذري، والتشظي بين الواقع الفعلي، والواقع الرقمي.. في السعي إلى إثبات الوجود، والتوق إلى اعتراف الأشخاص الرقميين الآخرين، وهو ما يؤثر سلبياً على بعض من أشكال التنظيم.. حول قضايا ومشكلات الواقع الفعلي في المجتمعات العربية الانقسامية.
من الملاحظ أيضاً، انفجار الأخبار السوداء الكاذبة وغير الحقيقية.. على الحياة الافتراضية في السياسة، والفنون، وفي نسبة مقولات وآراء وأحكام شخصية مرسلة وساذجة – في عديد الأحيان – إلى شخصيات عالمية وعربية وتاريخية في السياسة، والأدب، والفلسفة… إلخ!
الأخبار السوداء الكاذبة.. باتت جزءاً من الواقع الافتراضي، بعضها ذو طابع سياسي وديني معارض، وبعضها بات جزءاً من الترهات والتسطيح.. المعبرة عن ضعف مستويات المعرفة والتعليم، والوعي السياسي والديني والاجتماعي.. السائد في مجتمع عربي، أو جماعة – أياً كانت – داخله.
الفوضى الرقمية أدت إلى ظواهر إثارية، تستهدف جذب التفضيلات (Likes).. في محاولة لإثبات الحضور، وتحقيق بعضهم لبعض من مفهوم «الشهرة الرقمية».. لمواجهة تراجع المدة الزمنية للشهرة الفعلية.. للفنانين والفنانات عالمياً ومحلياً.
لا شك أن ذلك بات موضوعاً لشركات ومكاتب وشخصيات محترفة، يتم استخدامها في الترويج الرقمي، وتستعين بعض السلطات السياسية والممثلين والممثلات.. في ابتداع «الترندات»؛ من أجل الترويج للشهرة. وأيضاً توظف الصحف والمجلات صفحاتها الرقمية لهذه الترندات؛ لا سيما في العلاقات، والخلافات بين الفنانات والفنانين، وآرائهم النافرة عن العقلانية أو الرشد، أو التعبيرات النابية، أو الإثارية لفظاً ومحتوى، وأيضاً الصور والفيديوهات الوجيزة.. في إبراز مفاتن الجسد، وبعض من العري الإثاري، وذلك لأداء الوظائف التالية:
- لا شك أن ظواهر الترندات الإثارية تبدو مؤثرة على اهتمامات الرأي العام في الحياة الرقمية والفعلية، وتساهم في تكريس ظواهر موت السياسة في الواقع الفعلي الموضوعي عربياً.
- الظواهر الرقمية السابقة وغيرها وتمددها.. أثرت سلباً على الوعي السياسي والاجتماعي للجموع الغفيرة، على الرغم من استخدام بعض الأفراد الرقميين، وبعض المعارضات.. لخطابات التغريدات على موقع X إكس، في النقد، والتشهير والأخبار الكاذبة.
- لا شك أن هذه الظواهر الرقمية، وتفاقم ظواهر موت السياسة، وتنامي الوعي بالفردية، والتشظي.. أدت إلى تكريس وتمدد الأنامالية السياسية، وعدم الانتماء الوطني.. على نحو ساهم في الكراهية السياسية، وخاصة في ظل تدني مستويات التعليم العام والجامعي، وغياب وتشوه وتشوش الوعي التاريخي الوطني.. داخل كل مجتمع من المجتمعات العربية؛ خاصة في ظل هيمنة السردية التاريخية السلطوية المشوهة، والمبتسرة.. لتاريخ كل بلد ومجتمع عربي.
… من ثم نستطيع القول إن التفاعلات بين الحياة الرقمية والحياة الفعلية، أدى إلى شروخ في الوعي الاجتماعي والسياسي الجمعي.. المضاد للدولة الوطنية، والى اللجوء للتذري في الأنسجة الوطنية الجامعة، ومن ثم إلى بعض من تقوقع الذات الفردية حول ذاتها، وهمومها، ورغباتها، وتطلعاتها الاستهلاكية المفرطة، نظراً لشيوع نزاعات استهلاكية جامحة؛ سواء كان الفرد قادراً على إشباعها، أم ظلت أحد مراكز اهتماماته ورغباته وأحلامه في إشباعها، وهو ما أدى إلى تسليع الفردية، والحياة، وإلى تراجع كل ما هو حقيقي إلى تمثيل – وفق جي ديبور- وإلى نزاعات الاستعراضية، وهو يكرس حالة من الركود السياسي والعبودية السلعية.
أدت سطوة العقل النقلي.. إلى حصار العقل الديني التجديدي والإصلاحي والأخلاقي، وتهميش علم الكلام – الفلسفة الإسلامية العقلية والنقدية – ومن ثم إلى التجديد التفسيري والتأويلي، الذي يوائم بين النص ومتغيرات العصر، ومواجهة الأسئلة التي تطرحها بعض التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتقنية في مجال العلوم الطبيعية. من ثم حدث انفصال بين التعليم الديني، وبين تطورات العلوم الإنسانية النظرية والتطبيقية، والعلوم الطبيعية، والتكنولوجيا، والاكتشافات العلمية الجديدة، والمتغيرة في كافة المجالات.
ساعد على هذه النزعة السياسية الدينية الرسمية، والدور الوظيفي الديني والسياسي لرجال الدين، والتعليم الديني النقلي، في دعم ومساندة السلطات السياسية الحاكمة، وأيضاً في تبعية رجال الدين لها. وفي ذات الوقت، يسهم التعليم الديني النقلي – وطابعه القائم على ملكة الحفظ والتكرار للموروث الديني الوضعي – في هيمنة التسلطية السياسية.. على التسلطية الدينية التابعة لها، وأدى ذلك إلى أنماط من التسلطيات الدينية والمذهبية الإسلامية؛ بل والمسيحية الأرثوذكسية الشرقية.
نقلاً عن «الأهرام»