Times of Egypt

الليبرالية الجديدة من منظور المواطنة

M.Adam
سمير مرقص 

سمير مرقص 

 حجب المواطنة 

ساد العالم قبل نصف قرن تقريباً.. نظام اقتصادي عُرف باسم الرأسمالية النيوليبرالية. وعدت تلك الليبرالية الجديدة بتحقيق «رفاه شامل» لجميع مواطني الكوكب.. دون تمييز شريطة الأخذ بالسوق الحرة، والخصخصة. ومن ثم تمت إعادة هيكلة البرامج الاجتماعية.. وفقاً لمقتضيات السوق، وقوانينه؛ لا بوصفها حقوقاً وجزءاً من السياسات الاجتماعية للدولة، وإنما بوصفها سلعاً لابد من دفع تكلفتها، ومن لا يستطيع.. فعليه انتظار الجهود «الخيرية» لتوفيرها. 

ومنذ ذلك الحين – حسب أحد الباحثين – «نُزع الطابع الاجتماعي.. وجرى التسليع التام للحياة الإنسانية». ودفع الغالبية من مواطني الكوكب ــ أكثر من ثلثيهم ــ ثمن الليبرالية الجديدة، ما أثر في الصميم.. على أن تتوفر حقوق المواطنة: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية؛ لكتلة مليارية من مواطني الكوكب، فيما عُرف في الأدبيات «بحجب أو كسوف المواطنة Eclipse of Citizenship؛ ومن ثم بدا المشهد الختامي وبعد نصف قرن، وكأن دولة الرفاهية – التي وعد بها النظام الاقتصادي العالمي عقب الحرب العالمية الثانية – قد أصابها نمو غير متوازن، أدى بالأخير إلى رفاهية القلة ..على حساب الكثرة؛ إذ عرفت البشرية حالة من اللامساواة، والتفاوتات غير المسبوقة في تاريخها، وهو ما كشفه الاقتصادي الفرنسي النابغة «توماس بيكيتي».. في مجلديه المرجعيين الألفيين (إذ يناهز كل مجلد الألف صفحة)؛ الأول: «رأس المال في القرن الواحد والعشرين» عام 2013، (وكنا قد أشرنا إليه مبكراً في سنة 2014، ودعونا لترجمته آنذاك – وهو ما استجاب له بالفعل الباحثان المتميزان: سلمى حسين ووائل جمال لاحقاً – والثاني: «رأس المال والأيديولوجيا» عام 2020.

 (2) 

حصاد تحولات رأس المال في ظل الليبرالية الجديدة 

قدَّم بيكيتي – في هذا المقام – تحليلاً رائعاً لما يُعرف في الأدبيات: بـ «تحولات رأس المال» Metamorphosis of Capital؛ من حيث: طبيعة رأس المال وأشكاله المتنوعة، وتراكمه التاريخي، وعلاقة رأس المال بالدخل، وتمركزه… إلخ. 

ومن محصلة ما سبق، يشرح بيكيتي – بالتفصيل وبدقة – كيف تتم عملية توزيع الثروة. وفي أي مرحلة من هذه العملية – تحديداً – تحدث اللامساواة. والأهم والأخطر، هو كيف تتحول اللامساواة إلى حالة بنيوية مستمرة وممتدة، ذات هيكلية تعمل على تزايد الفجوة بين القلة الثروية – التي تتمركز الثروة في يدها، كما تستأثر بالامتيازات – وبين غالبية من المواطنين، تعاني التوزيع غير العادل.. المتعلق برأس المال (ويُميز بيكيتي – في كتاباته – بين توزيع ملكية رأس المال.. الدخل من رأس المال، الذي يكون أكثر تركيزاً.. من توزيع الدخل من العمل. كما تغيب عنها حقوق المواطنة على جميع الأصعدة.. بدرجات متفاوتة (بطبيعة الحال)، حسب موقع كل مواطن ينتمي لهذه الأغلبية (في الجسم الطبقي والاجتماعي). وهنا، لم يكتف بيكيتي بمقاربته الاقتصادية التاريخية التشريحية للنظام الاقتصادي العالمي، وإنما دعمها بمقاربة سوسيو-تاريخية وفكرية.. لتطور الدول والمجتمعات – منذ الأزمنة الحضارية القديمة.. مروراً بأوروبا، وحتى الوقت الراهن – ليَخلص بأنه.. مع مرور الوقت، تأسس ما أطلق عليه بيكيتي: أنظمة اللامساواة Inequality Regimes؛ ومن ثم تأسيس نظام اجتماعي ذي طبيعة اختلالية.. مستمرة وممتدة، وعابرة للزمان والمكان، في بنيتي كل من الدولة والمجتمع.. في دول الوفرة والرفاه والازدهار والنماء والهناء، كذلك دول الندرة والشقاء والإفقار والانكماش والعناء. تجسد الاختلال عملياً في أمرين؛ هما.. أولاً: اللامساواة التاريخية المتفاقمة والمتضاعفة. وثانياً: الانتقاص من حقوق المواطنة.. الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية لغالبية المواطنين. 

الربح مقابل الحقوق 

وسؤالنا المشروع والمنطقي: ألم يَحن وقت بلورة رؤية نقدية عربية.. للنيوليبرالية، طالما كان حصادها بائساً، بل وفائق التدمير.. للكوكب ومواطنيه؟! (راجع كتابنا نيوليبرالية فائقة التدمير: الرفاه الضائع واللامساواة والانهيار البيئي والمناخي والفقر والجوع – الصادر عن دار العين، 2025).. ما جعل كثيراً من المتابعين يصفها في كثير من الأدبيات.. بـ «الخرافة الكبيرة» A Big Myth؛ كذلك بـ «الكابوس» Nightmare؛ (وهو ما تعكسه الكثير من النقاشات التي تجري الآن في الأكاديميا، والملتقيات السياسية والاقتصادية والمنتديات العالمية؛ مثل منتدى دافوس الاقتصادي العالمي.. رأسمالي التوجه، والتقارير الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة.. بمؤسساتها المختلفة، والمؤسسات التنموية المدنية مثل أوكسفام، والعديد من الكتب والدراسات). 

اجتهدت تلك النقاشات في تشريح ما اقترفته الليبرالية الجديدة.. في حق مواطني الكوكب، على مدى ما يقرب من نصف قرن، وهو التشريح الذي يعكس مقاربة الليبرالية الجديدة من منظور المواطنة، وذلك من حيث.. أولاً: حجب الحقوق بأبعادها عن هؤلاء المواطنين. وثانياً: تسليع تام للحياة الإنسانية. وثالثاً: إلحاق الأذى بالتنمية المستدامة، الشاملة المقدمة للجميع، بفعل النمو غير المتوازن، الذي أدى إلى هناء القلة.. على حساب شقاء الأكثرية من المواطنين. ورابعاً: تعظيم الاحتكارية في النظام الاقتصادي العالمي والاقتصادات القومية. وخامساً: إلغاء الضوابط – حسب العالم الكبير سمير أمين – وإضعاف الصرامة النقابية.. لصالح استثمارات تُدر أرباحاً مُستقاة من الاستغلال، تعود للقلة بسرعة، دون أن تنشغل باستثمارات إنتاجية.. ذات عائد يُلبي احتياجات شرائح أوسع من تلك القلة، أو ما أطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين (1929 ــ 2023).. «ثنائية الربح في مواجهة الحقوق» Profit versus Rights. وسادساً: الإفراط في الإعفاءات الضريبية للأغنياء، وسابعاً: تراجع الاهتمام بالسياسات الاجتماعية، وبقوانين العمل.. التي تؤمّن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعاملين. 

ونتج عما سبق أن سارت – ولم تزل تسير – المجتمعات.. في اتجاه الانشطار، وتنامي الاختلالات المجتمعية، واتساع التفاوتات، وإضعاف المواطنة، وانتقاص حقوقها.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة