Times of Egypt

اللغة الرقمية والفجوات بين الأجيال 

M.Adam
نبيل عبدالفتاح

نبيل عبدالفتاح

اللغة صنو العالم والحياة الإنسانية، ومن خلالها تُطرح الأسئلة الوجودية، ومشكلة المعنى في الحياة. اللغة هي التواصلية بين مكونات كل جماعة ـ عرقية أو دينية أو مذهبية أو قومية ـ ومن ثم تشكلت عبر الأنظمة اللغوية ـ مع مكونات أخرَى ـ الثقافات الإنسانية المتعددة، وذاكرة المجتمعات والأفراد. 

أسهمت اللغة، وطابعها الاتصالي.. في بناء الموحدات المشتركة داخل الجماعات، ومكونات كل مجتمع إنساني أياً كان. من خلال اللغة، تشكلت الهويات أياً كانت، وأيضاً تطورت مع تقدم المجتمعات تقنياً وعلمياً ورأسمالياً، تنامت وتطورت اللغة ومفرداتها ومجازاتها وأساليب تعبيرها، وأدت الثورة الألسنية إلى تجديد الأسئلة والمفاهيم والمصطلحات الفلسفية، والسياسية والقانونية وفي العلوم الاجتماعية كافة، والأدب والفنون، والصحافة والإعلام، والثقافات المتعددة.

التجديدات في نظريات اللغة، ومناهج مقارباتها.. أسهمت في رفد العقل والفكر الإنساني بالحيوية والدينامية. من هنا كانت الصراعات اللغوية بين اللغات الكبرى – في المراحل التاريخية المختلفة – الوجه الآخر للصراعات السياسية بين الدول والمجتمعات – وداخلها – قبل الدولة الأمة والرأسمالية، خاصة مع الاستعمار الغربي، ومع الإمبريالية الغربية. ومن هنا تمددت اللغة الإنجليزية، وهيمنت مع الفرنسية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية على العالم. من ثم ذهب عديد من كبار اللغويين في عالمنا ـ فرنسا على وجه التحديد ـ إلى أن اللغة الصينية.. سوف تتمدد وتسيطر على لغات العالم.. اعتبارا من منتصف القرن الحالي إلى نهايته، وذلك دلالة على التحولات في مواقع القوة التكنولوجية والاقتصادية والعلمية.. بين الصين الصاعدة، وبين الولايات المتحدة، ودول أوروبا، التي بدا بعض من التراجع في قوتها التكنولوجية والاقتصادية والعلمية والسياسية؛ على نحو ما رصد بعض المفكرين والخبراء الأوروبيين.

حركية اللغات جزء رئيس.. من تطور المجتمعات والدول العلمي، والتكنولوجي والثقافي، الذي يجد تجسيده ومعناه في أنظمة اللغة، والتبادل فيما بينها، وبين بعضها بعضاً في العصر الحديث والمعاصر. أسهمت اللغة على نحو مركزي، في توحيد البلدان الأوروبية.. ما قبل الدولة الأمة، مع توحيد الرأسمالية للأسواق، وأيضا في تطور الثورات الصناعية الأولَى، والثانية، والثالثة، ومعها تطور العلوم الاجتماعية، والعلوم الطبيعية. الحداثة تشكلت عبر اللغة، والعقل الحداثي الغربي، والإنتاج الفلسفي والقانوني والأدبي وفي الأدب والفنون والسوسيولوجيا، وأيضاً نظريات ما بعد الحداثة وما بعد بعدها.

مع الثورة الصناعية الرابعة، والثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي التوليدي وأنظمته، ثمة تحولات في اللغة، ومفرداتها ومجازاتها.. بل وفوضاها؛ من خلال السرعة الفائقة في عالم الرقمنة والذكاء التوليدي. الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي.. سيشكلون ثورة لغوية من حيث المفردات، والمجازات، والأساليب اللغوية، وفي المعاني، وطبيعة الوظيفة الاتصالية، وفي التلقي.. سواء كانت اللغة المكتوبة، أو اللغة الشفاهية، أو اللغة المحكية، أو لغة الصور.. بالنظر إلى أثر وسائل التواصل الاجتماعي ومنشوراته، وفيديوهاته، وتغريداته، وصوره على اللغة.

تمثل الصور والفيديوهات مركزاً للغة البصرية، والشفاهية.. سواء من حيث إبداء الآراء أياً كانت قيمتها، أو تفاهاتها. أو من أجل الإثارة اللفظية والفحش.. في العبارات السوقية أو الجنسية، من أجل تعظيم المشاهدات والقراءات والتعليقات.. للحصول على المال من الشركات الرقمية. الملاحظ أن وسائل التواصل الاجتماعي في مصر والمنطقة العربية، تسيطر على بعضها اللغة المهجنة بين الفصحى، والعاميات العربية.. ذات السطوة، والانطباعات المرسلة، وأحكام القيمة الأخلاقية، والهجاء والمديح من السياسة، إلى الفنون إلى الأخلاق والدين، والقيم السائدة أو الآفلة.. التي تجاوزها التغير الاجتماعي! لا شك في أن اللغة الرقمية، تأثرت باللغة الفعلية في واقع كل مجتمع، وجماعاته التكوينية ـ القبلية والعشائرية والدينية والمذهبية والمناطقية، والعرقية ـ وأثرت اللغة الرقمية على اللغة في الواقع والحياة الفعلية.

الميل إلى الإيجاز في اللغة، ومنشوراتها.. تبدو في التغريدات على منصة (X)، وأيضاً المنشورات، وفي أنماط السخرية البذيئة، أو العادية، أو النكات. وأيضا في الأوصاف السلبية، أو الإيجابية، أو الطبقية. لغة السطحية تعبر عن ضعف المحصول اللغوي.. لدى الأجيال الرقمية، ومن ثم تبدو جلية.. بالنظر إلى ضعف التكوين اللغوي، ومستوى تعليم اللغة العربية في مراحل التعليم المختلفة.. حتى الجامعي وما بعده. من ثم تسيطر بعض من لغة الشارع على الحياة الرقمية.

لا شك في أن ضحالة اللغة عكست – ولا تزال – أزمات العقل شبه الجمعي، وأيضاً ما يطلق عليهم النخب أياً كانت! فالتدهور اللغوي، وثقافة الإجابات الجاهزة، أسهمت في تراجع حيوية التفكير على رسائل التواصل الاجتماعي، نظراً لتراجع ثقافة الأسئلة، والإشكاليات. مرجع ذلك أن ثقافة الحفظ والتلقين هي السائدة في مراحل التعليم المختلفة، والخلط بين العلم، والقيم الدينية، والأخلاقية السائدة.

من ثم باتت اللغة الرقمية السائلة ـ التافهة والسطحية والانطباعية – حول تاريخ بلادنا، والمنطقة والعالم، تشكل أحد محركات الصراعات الحادة حول الهوية، وتؤدي إلى انقسامات تضعف الانتماء الوطني، والتكامل الداخلي.. بين الفئات الاجتماعية المختلفة. لغة الانقسامات حول الهوية على نحو صراعي وأيديولوجي وديني ومذهبي.. تؤدي إلى تآكل الموحدات الوطنية الجامعة، والرأسمال السياسي الوطني المشترك للأمة المصرية. باتت اللغة القبائلية والعشائرية الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية.. تمثل أداة في توسيع الفجوات، وكسر وإضعاف قواعد العيش المشترك.. في بعض البلدان العربية. 

تتراجع جزئياً اللغة العربية الفصحى، بوصفها الموحد العروبي للثقافات المتعددة عربياً.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة