Times of Egypt

الكراهية.. كيف تولدت؟!

M.Adam
أحمد الجمال

أحمد الجمال 

بعد الفاصل أواصل.. إذ لم أتمكن من كتابة المقال الأسبوع الفائت، حيث كان السياق هو التساؤل المزدوج: كيف تتحقق الحماية الاجتماعية؛ أي انتفاء الظلم الاجتماعي والاقتصادي خلال التطبيق الرأسمالي، ثم ما السر من وراء الموقف السلبي المعادي.. الذي يتخذه كثير من الفئات الاجتماعية تجاه أصحاب الثروة؟! وهو ما حاولت أن أمسك بأطراف خيوط إجابته في مقالات سابقة.

وقد كان ما منعني من الكتابة.. أنني في بعض الأحيان ينتابني حنين للمشي حافياً، ولتشمير أرجل البنطال وأكمام القميص، والانحناء لغرس شتلات، وانتزاع «تنقية» حشائش، أو جني فلفل وباذنجان، وعزق التربة.. ونثر السباخ البلدي. وبالصدفة وجدت أمامي كومة من الرمل.. المختلط بالتربة، وهيلا هوب أحضرت «الكوريك»، وبدأت أتشملل لنقلها لمكان آخر، وأخذت أملأ الكوريك وأرفعه لأدفع ما فيه للمكان الآخر، إلى أن انتهيت منتشياً بالإنجاز وفتحت المياه لتغوص قدماي في الطين، ورويت ما شتلت.. ثم غسلت أطرافي.. وطلبت الشاي. 

وعند المساء، وبعد سكرة نشوة الارتداد الفلاحي.. بدأت فقرات القَطن والعصعص تنقح. وتصاعد الألم، إلى أن لم أجد بداً من الاستنجاد؛ لأن النصف التحتاني كله أمسى في حالة حرب.. فلا المفاصل تريد الاستمرار في الاتصال، ولا الأعصاب تؤدي أي مهمة.. سوى نقل الألم في كامل الحوض.. من خلف ومن أمام؛ وكأنني تلقيت ركلة عنيفة في محاشمي، واستحال النوم في أي وضع، ولم تفلح المراهم، إلى أن أنقذني صديقي الجرَّاح العالمي البروفيسور جمال مصطفى سعيد.. بوصفة أدوية تمكنت من تحقيق التعافي والشفاء.

… هذا الذي جرى لي – وأنا أتسلّى – هو بعينه ما كان يحدث، وأضعاف أضعافه.. لمن أتحدث عنهم في سياق موضوع هذه المقالات؛ وأعني بهم الفلاحين المصريين، الذين قضوا أعمارهم القصيرة.. منحنين في الأرض، يطفحون الدم، ثم يجني غيرهم.. ثمار عرقهم، وطفح دمائهم.. عبر العصور.

وقد كان الواقع المترتب على اللائحة السعيدية – التي أصدرها سعيد باشا، والي مصر من 1854 إلى 1863 – نموذجاًللظلم الاجتماعي – خاصة في صعيد مصر- حيث تمكَّن كبار الموظفين في الإدارة المصرية، وأيضاً الذين ارتبطوا مع الهيئات الأجنبية وكذلك الأجانب؛ من الاستيلاء على الأراضي الزراعية، بما فيها المساحات الصغيرة، التي كان يتملكها أو يحوزها الفلاحون الغلابة، وقد ضربت مثلاً استقيته من المرجع الأساسي الذي أعتمد عليه، وهو كتاب الدكتورة زينب أبو المجد «إمبراطوريات متخيلة.. تاريخ الثورة في صعيد مصر» ترجمة أحمد زكي عثمان.. وكان المثل هو عبد الغفار أفندي، مدير إسنا، وبشارة عبيد، وكيل القنصل الفرنسي في قنا، اللذين امتلكا آلاف الأفدنة.. بطرق أدت إلى ثورات فلاحية عنيفة، منها ما جرى في قرية السليمية عشية ثورة 1864 التي قادها الشيخ أحمد الطيب، الذي زعم أنه المهدي المنتظر، وأن إلهاماً يأتيه من السماء، ودعا للخروج على الخديوي.. وكان اندلاع الثورة بعد أن جرَّب الفلاحون – الذين فقدوا مئات الأفدنة من أطيانهم لصالح موظفي الحكومة الكبار – الوسائل القانونية من أجل استعادة أملاكهم دون جدوى.

بل وفوق ذلك كان أولئك الموظفون يستخدمون وسائل التزوير والتدليس.. للاستيلاء على أراضي ومحاصيل الفلاحين، ثم تدبير التهم التي تلقي بهم في السجن. ونشبت الثورة، واستطاع زعيمها أحمد الطيب.. تجييش آلاف الفلاحين، الذين فقدوا أراضيهم ومعهم حشد «الفلاتية» – قادة المناسر والعصابات وأفرادها – الذين اختبأوا في حضن الجبل.

 ومثلما فعل والد أحمد الطيب – قبل أربعة عقود، في ثورته ضد محمد علي باشا – قام الابن بتوظيف «الرطانة الدينية ذات.. الصبغة الروحانية، لإقناع الأهالي وحشدهم للتمرد»، حسبما كتبت الدكتورة زينب، التي أضافت: «وتجاوزت أهداف العصيان تلك المرة.. مجرد التخلص من عبء الضرائب العالية، أو حتى إزاحة إسماعيل باشا من مقعده في القاهرة؛ ليطوِّر المتمردون الغاضبون خطاباً أكثر تقدماً.. لثورة شاملة ضد طبقة أصحاب الأملاك، وضد سيطرة الأجانب على التجارة.. ولذلك وصفت ليدي لوسي دوف جوردون – شاهدة العيان الإنجليزية على الأحداث – تلك الثورة بأنها.. انتفاضة شيوعية».. وهذه السيدة البريطانية هي – كما يشير المرجع – المصدر الوحيد المفصل والكامل.. بشأن وقائع ثورة الفلاحين؛ لأنها أقامت لمدة ثلاث سنوات في الأقصر.. لأجل الاستشفاء من مرض السل، وتعلمت العربية، واختلطت بالأهالي، وأثناء إقامتها.. تصاعدت الأحداث؛ فدوَّنتها يوماً بيوم.. في صفحات مطوَّلة من خطاباتها، التي بعثت بها لأقاربها في إنجلترا، ثم نشرتها بعد ذلك في كتاب.. حمل عنوان «رسائل من مصر 1863- 1865«.

وبالطبع، كانت الليدي الإنجليزية منحازة ضد المتمردين، لأن حلقة أصدقائها في الأقصر.. كانت مكوَّنة من الطبقة العليا، أي الموظفين الأتراك، وأحد فقهاء الشريعة ميسوري الحال، وثرى قبطي.. كان وكيلاً للقنصل البريطاني بالمديرية.

هكذا وباختصار شديد ومُخل، نرصد الأمرين، الأول.. هو سلوك وتصرفات أولئك الذين صاروا كبار ملاك ضد جمهور الفلاحين، وهو أصل السمعة السيئة الكامنة من وراء كراهية الناس. والثاني.. هو العصف الكامل بأي حماية اجتماعية، أو تخفيف للظلم الاجتماعي.

وسأستكمل بما أرى أنه عامل مهم في هذا الصراع، ألا وهو عامل الخطاب الديني والتفتيت الطائفي.

نقلاً عن «المصري اليوم«

شارك هذه المقالة