Times of Egypt

القوة فوق الحق

M.Adam
سمير مرقص 

سمير مرقص

أثارت التصريحات المتكررة للرئيس الأمريكي – التي دأب فيها على التلويح باستخدام القوة لفرض واقع جديد.. في أكثر من موضع صراع في العالم – قلق المفكرين الاستراتيجيين والسياسيين.. من أن تلك النوعية من التصريحات، تعد ردة إلى زمن شريعة الغاب.. التي «تشرعن» الغزو؛ حيث تأتي القوة قبل الحق/الحقوق.

حول هذا الموضوع، الجد خطير، نشرت دورية الفورين أفيرز الأمريكية العتيدة – في عددها الصادر هذا الشهر (عدد يوليو/أغسطس 2025) – دراسة بعنوان: «القوة تنقض الحق: الانهيار الكارثي للضوابط المناهضة لاستخدام القوة» Might Unmakes Right: The Catastrophic Collapse of Norms Against the Use of Force؛ أعدَّها اثنان من أساتذة القانون بجامعة ييل (أونا هيثواي.. رئيسة الجمعية الأمريكية للقانون الدولي، وزميلها سكوت شابير.. أستاذ الفلسفة والقانون، وقد قاما بتأليف مشترك لكتاب «الأمميون: كيف أدت خطة جذرية لحظر الحرب إلى إعادة تشكيل العالم»).

ينطلق أستاذا القانون – في دراستهما – من رصد مكثف لتصريحات ترامب خلال الأشهر الأولى من ولايته الرئاسية الثانية.. التي هدَّد من خلالها باستخدام القوة العسكرية لحسم أكثر من نزاع حول العالم، أو لاستيلاء الولايات المتحدة الأمريكية على مواقع استراتيجية لإدارتها عنوة. وبغض النظر عن مدى ودرجة جدية تلك التصريحات، إلا أنها تعكس – في حقيقتها – الإصرار والتعمد في التعدي على المبادئ العتيدة لنصوص ومبادئ القانون الدولي، ومرجعيته المنظمة للعلاقات بين الدول، التي تمنع استخدام القوة العسكرية في حل النزاعات. وكيف أن إفراط ترامب في التلويح باستخدام القوة – على حساب الحقوق والشرعيات بمختلف أشكالها – يمثل عودة إلى ما قبل القرن العشرين، إلى زمن كان فيه السياسيون والقانونيون يرفعون شعار «حق الغزو» Right of Conquest؛ ويبررون – بل ويشرِّعون – استخدام القوة لشن الحروب، والاستيلاء على أراضي ومقدرات الغير.

وفي هذا المقام، يذكر الباحثان بأمرين هما: الأول: معاهدة كيلوج-برييان – التي وقَّعتها 15 دولة في باريس نهاية أغسطس 1928 – التي جرَّمت نصوصها الحروب العدوانية وعدم شرعيتها، كما حرمت غزو البلدان. والثاني: ميثاق الأمم المتحدة المعتمد عام 1945، الذي لم يثبت فقط، ما تم التوافق عليه قبل 17 عاماً في باريس. بل شدَّد – صراحة وبجلاء.. نصاً – على حظر التهديد – أصلاً – باستخدام القوة.. خاصة ضد سلامة ووحدة أراضي دولة أخرى. وتوافقت الدول الأعضاء – من خلال الخبرة التاريخية – على مساندة المبادئ الداعمة للحق والشرعية.. من خلال آليات سلامية وحوارية واقتصادية، تيسر ترسيخ الشرعية الدولية.

بالطبع، لم تمنع المعاهدات والمواثيق الدولية المذكورة الحروب أو الغزوات، إلا أن الباحثَين القانونيين – من خلال توثيق تاريخي معمق ومركز – يؤكدان أن الحروب قد تراجعت بعض الشيء، بل باتت أقل انتشاراً – بدرجة أو أخرى – خلال العقود التي تلت الاتفاقات والتسويات التي أنهت الحرب العالمية الثانية. ويدلل الباحثان على ذلك من خلال رصدهما انخفاض عدد الدول التي تم غزوها conquered؛ من قبل دول أخرى، وما ترتب على هذا الغزو – في بعض الحالات – من «استقطاع» مساحات من الدول التي تم غزوها لصالح الدول الغازية. ومن ثم رسم حدود جديدة في ضوء هذه الغزوات والاستقطاعات. ويقدِّر أستاذا القانون انخفاض المساحات التي استولت عليها دول أجنبية سنوياً.. إلى أقل من 6%، مقارنة بالغزوات الحربية التي كانت تتم على مدى قرن من الزمان.. سبق معاهدة 1928 الباريسية، وميثاق 1945 الأممي.

بيد أن الباحثين يربطان بين إدارة بوش الابن (2001 – 2008) المدعومة بالصقور المحافظين: السياسيين والدينيين؛ والخروج السافر للولايات المتحدة الأمريكية على المعاهدات الدولية.. التي تلزم الدول بعدم غزو دول أخرى، عندما قررت الإدارة الأمريكية المحافظة – النفطية المصالح – غزو العراق تأسيساً على حجة واهية، بل وكاذبة حسبما تبين لاحقاً.

إلا أن ما اقترفته إدارة بوش.. من خروج على المبادئ الدولية، لم تواكبه أي تصريحات علنية من قبلها، تضرب عرض الحائط بتلك المبادئ. على النقيض، تماماً، فقد وضح أن ترامب غير آبه بالكلية في الالتزام بالضوابط، التي وضعتها الأسرة الدولية للنظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي يُحرّم/يُجرّم استخدام القوة.. لحصول أي دولة على ما ليس لها من دولة أخرى؛ سواء كانت أراضي أو مقدرات، أو غير ذلك من منافع. ومن ثم رصد الباحثان كيف استعاد ترامب – من خلال تصريحاته – منطق شن الحرب – أو التهديد بها – كوسيلة رئيسية لحل خلافات الدول. وهو النهج الذي تلقفه رئيس وزراء الكيان الإبادي، ومارسه في غزة. كما نتج عن تهديدات ترامب الخاصة ببنما.. استجابة للمطالب الترامبية، كذلك قبلت كييف بالتوقيع على اتفاقية.. تتيح للولايات المتحدة الأمريكية حق الوصول إلى موارد، بعد أن هددها ترامب بالسماح لبوتين.. بأن يضم أجزاء من الأراضي الأوكرانية.

وينبه الباحثان إلى أن السلوك الترامبي التهديدي، يعد انتقاصاً للحظر المفروض على استخدام القوة والتهديد بها.. للنيل من أصحاب الحق. ما يعني حكماً عودة التقاتل حول الجغرافيا السياسية، وثروات الدول، ومزاياها الاستراتيجية؛ وفق المنطق «الهوبزي»، (نسبة للفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز 1588-1679؛ القائل بتحويل العالم إلى غابة.. شريعتها القوة والصراع، ومن ثم البقاء للأقوى.. دون أي اعتبار للحقوق)، الذي يترتب عليه تداعيات كارثية منها: تجدد حروب الغزو/الغزوات الحربية، وتسارع وتيرة سباق التسلح العالمي، وانكماش التجارة العالمية، وتصدع آليات التعاون الدولي.. المنوط بها مواجهة التهديدات العالمية المشتركة. كما يحذران من الردة التي ستلحق بالقانون الدولي من جراء إطلاقية استخدام القوة.

وبعد، يستدعي أستاذا القانون عبارة ذات دلالة.. للمؤرخ الإغريقي ثوسيديديس (Thucydides) (460 – 395 ق.م.) – وردت في كتاب «تاريخ الحرب البيلوبونيسية» – تقول: «يفعل الأقوياء ما يشاءون لفرض إرادتهم، ويعاني الضعفاء الرضوخ لما يفرض عليهم عنوة»، وذلك للتدليل على الممارسة الترامبية – التي من المرجَّح أنها سوف تفتح الباب على مصراعيه، أمام إسرائيل.. لممارسته – التي تقوم على منطق: الغلبة/القوة/العنف.. في إدارة الشأن الدولي، وإن جار على الحق/الحقوق.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة