أحمد الجمال
لو أدرك سفهاء المسلك الترفي.. بالغ الفحش في مجتمعنا – ومنهم النموذج الذي أطلق عليه الساحل الشرير – أنهم يعملون على تسريع الوصول إلى الوقت الذي.. لن يُبقي ولن يذر، لغيَّروا مسلكهم، أو على الأقل خففوا من فحشه وحوَّلوا جزءاً – ولو يسيراً – من نفقات ترفهم الغاشم إلى ما يمكن أن يشهد لشريحتهم الاجتماعية – الاقتصادية بالرشد والتحضر، وأيضاً التمدن، الذي منه انتشال بقية الشرائح الاجتماعية من التخلف المدني والثقافي، ومن الفقر والمرض والجهل.
في ظني، أنه لو كان أولئك المترفون يقرؤون تاريخاً، أو يحوزون معرفة بتطور مجتمعات.. بقيت نماذج للنمو الرأسمالي؛ لأدركوا أنه ما كان للرأسمالية الأوروبية أن تنمو وتزدهر وتستمر.. إلا بالوصول لحالة توازن مجتمعي، بالتفاهم بين قوة رأس المال وقوة العمل، ولذلك وجدنا هناك – وفي نماذج رأسمالية غير أوروبية – برامج للحماية الاجتماعية، وتمكين الطبقات الدنيا والمتوسطة من حقوق مواطنتها.
ولأن إحدى أبرز سمات تلك الشريحة في مجتمعنا.. هي الاستناد لغطاء أخلاقي؛ مستمد من التدين الشكلي الناقص، الذي يؤوِّل كل منظومة القيم الأخلاقية النبيلة – التي حضَّت عليها الأديان – لمصلحته ومفاهيمه، التي تعتقد أن حالتهم هي «الأرزاق» التي كفلها رب العزة، وهي «تفاوت الدرجات» بين البشر، أي بين «فوق» و«تحت». ورغم ذلك فإنهم لا يلتفتون أبداً إلى نصوص.. تحض على التكافل والتراحم، والصدقة وإطعام الطعام، وفك كرب المكروبين، إلى آخر ما في هذا السياق.. بل إنهم لا يعرفون شيئاً من الناموس الكوني المرتبط بالآية الكريمة في سورة القصص: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَرْيَةً بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهَا إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ. وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص 58-59).
وفي اللغة العربية فإن البطر.. هو الغفلة، والباطل.. والركون للمعاصي. وهنا أذكر نقاشاً دار بين أستاذي الراحل الدكتور فرج عبدالقادر طه – أستاذ علم النفس، والمشرف الرئيس لموسوعة علم النفس – وبيني، إذ قال قبل سنين طويلة.. إن مصطلح «البطر» غير موجود في لغة أخرى، وأنه – أي الدكتور طه – يعتبره مرضاً عضالاً يصعب علاجه.
ثم إن الآثار الاجتماعية والسياسية.. المترتبة على توسيع وتعميق الفجوات الاقتصادية، ومن ثم الاجتماعية بين القوى الاجتماعية وشرائحها المختلفة؛ لن تقتصر على أولئك المترفين وحدهم، بل ربما يفلت معظمهم إلى ملاجئ أعدوها في الخارج.. حيث ترقد أموالهم في البنوك هناك، وقصورهم أو مساكنهم تنتظرهم، بل وبلا مبالغة.. فإن طائراتهم الخاصة لن تستغرق وقتاً طويلاً للتسخين والإقلاع، وتبقى الأغلبية في مواجهة كل ما يمكن أن تحمله الفوضى أو الانتفاضة، أو الثورة.. من مخاطر ومن دمار.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن عقل مصر ووجدانها وذاكرتها، لن تنسى دور جيش مصر العظيم.. في تدارك كثير من الآثار السلبية التي حاقت بالوطن – أثناء وبعد يناير 2011 – والوصول بالسفينة المصرية لمرافئ السلامة الوطنية، وبعد ذلك استكمل المسيرة بالثلاثين من يونيو، والمشروع الوطني النهضوي المتكامل.
وليس مطلوباً من الآخرين – وخاصة المقتدرين المترفين – إلا أن يساهموا في البناء الاقتصادي الاجتماعي.. بما يكفل تحقيق التوازن. فإن لم يكن ذلك، فعلى الأقل يكفون أذاهم وشرورهم عن المجتمع، فلا يعمدون إلى مزيد من الضغط وزيادة الاحتقان المجتمعي، وتعظيم حالة السخط لدى فئات عريضة.. شهد الرئيس أنها تحملت وتتحمل أعباء جسيمة، وصبرت من أجل استكمال البناء الوطني.
إن أحداً لا يمكن أن يكون ضد تكوين الثروات.. بشكل مشروع، وملتزم بما عليه من واجبات قانونية، ولا يمكن أن يكون ضد الاستمتاع والترويح.. والإنفاق على ذلك، ولكن كل أمر يزيد عن حده.. فإنه ينقلب إلى ضده. ولعل أولئك المترفين المتبطرين يدركون أن إحدى نتائج ما يفعلونه، هي جنوح أجزاء من المجتمع إلى التطرف الديني والطائفي، والتطرف اليساري المتشدد، والتطرف الإلحادي، والتطرف الفوضوي العدمي؛ إذ إنه كلما زاد الضغط وتعمق الاحتقان.. فلا بد من مجال للتنفيس، حتى وإن كان التطرف هو المتنفس المتاح.. للتعبير عن الرفض الشامل. وإذا لم يخف الضغط، فإن التطرف يتحول إلى انفجارات متلاحقة، يحدث بينها اتصال مكاني وزماني.. لتصبح تدميراً شاملاً. وهذا هو «الإهلاك».
وحسب الإصحاح السادس (من إنجيل متى)، فإننا نقرأ: «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين. لأنه إما يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال، لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون.. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس» (متى 6-25:24).
نقلاً عن «الأهرام»