محمد أبوالغار
لكل مدينة في العالم تاريخها الذي تحتفظ وتعتز به. المدن القديمة ذات التاريخ العتيق تود.. الاحتفاظ بالطراز الذي تم بناؤها عليه عبر مئات السنوات، والحفاظ على تراث وعظمة وتاريخ الأمة أمر حيوي. هل يمكن أن يقرر عمدة لندن أن يقوم بتغيير الميادين الأساسية في مدينته، ويقوم بعمل تعديلات أمام باكنجهام بالاس في لندن، مثلما حدث أمام قصر عابدين في القاهرة؟ هل يمكن أن يقوم الرئيس ماكرون بتغيير شارع الشانزليزيه، أو الميدان أمام قصر الإليزيه.. لمجرد أن مستثمراً أجنبياً أراد أن يقوم بمشروع.. يجلب بضعة ملايين من الدولارات لفرنسا؟ روما العظيمة استمرت عشرات السنوات، لا تستطيع أن تقيم مترو أنفاق يحل مشكلة المرور، لأن الآثار المدفونة سوف تخرج يوماً من الأيام.. ولو بعد مئات السنوات، ويجب احترامها.
دبي مدينة حديثة.. عمرها بضع سنوات، ولذا تم بناؤها بالطراز المعماري الحديث، وأصبح لها طابع حديث خاص بها، ويناسب مساحتها الصغيرة.. بالمباني المرتفعة. ما يناسب دبي لا يناسب القاهرة. وما يُعتبر جمالاً في دبي.. قد يُعتبر قبحاً في القاهرة. كما أشير إلى أنه تم هدم مبانٍ تاريخية، ومنطقة مقابر شديدة الأهمية التاريخية والأثرية؛ وهي الوحيدة من نوعها وتاريخها في العالم.
التحديث أمر هام، وبناء مترو الأنفاق ضرورة، ولكن طرق الهندسة الحديثة والمتطورة تستطيع التغلب على معظم المشاكل.. بحيث يمكن إقامة كوبري أو نفق، وتفادي هدم أثر هام. القاهرة الخديوية أثر هام – والوحيد من نوعه في منطقة الشرق الأوسط – ولا مثيل له. كل منطقة الخليج مبانيها حديثة، ومعظم مباني بلاد الشرق الأوسط القديمة.. دمرتها الحروب، وبذا تبقى القاهرة الخديوية كنزاً عالمياً فريداً.
لقد مرَّ على القاهرة الخديوية سنوات سيئة.. حين هجرها سكانها الأصليون، وتم تأميم مبانٍ كثيرة، وأُهملت معظم مباني وسط المدينة. هذه المباني تحتاج إلى إعادة تأهيل.. حتى تعود إلى رونقها القديم الجميل مع تحديث الداخل والحفاظ على الواجهات الرائعة، وليس هدمها وبناء مولات.
هذه المنطقة كان بها أعظم محلات في الشرق الأوسط.. مماثلة لمحلات أوروبا الضخمة التي تبيع كل شيء. الحل هو إعادة هذه المحلات الضخمة: شيكوريل وشملا وصيدناوي وهانو وجاتينيو وعمر أفندي إلى أصلها وفخامتها الأولى.. بشكلها التقليدي، المماثل لما هو في لندن وباريس.
تأسست – منذ سنوات – شركة مصرية تسمى «الإسماعيلية».. بغرض إعادة رونق مباني وسط القاهرة إلى شكلها القديم مع تحديثها، وفعلاً قامت بشراء عدد من المباني القديمة، وإصلاحها وإعادتها إلى وضعها الأمثل، وساعدت محافظة القاهرة بإعادة طلاء بيوت بعض الشوارع والميادين الهامة، وتوحيد لافتات المحلات.. بحيث اختلف الشكل والمنظر إيجابياً.
أعلن رئيس الوزراء عن مشروع تطوير وسط القاهرة.
… وسط القاهرة جزء له تاريخ، ويُعتبر أثراً، وهو ليس رأس الحكمة – التي هي قطعة من الصحراء.. لها ساحل كبير، وليس لها سابقة مبانٍ لها رونق معين، ولا تاريخ خاص – الأمر مختلف تماماً.
تطوير وسط القاهرة، يجب أن يمر بسلسلة طويلة من الدراسات.. التي يجب أن تُلزم المستثمر بشروط دقيقة، للحفاظ على شكل وسط القاهرة ومظهر مبانيها. الدراسة يجب أن يقوم بها متخصصون، وأقترح أن ترأس هذه اللجنة الدكتورة سهير حواس – الأستاذة بهندسة القاهرة، وصاحبة أهم كتاب ودراسات عن القاهرة عموماً وعن القاهرة الخديوية خصوصاً – ولا يصح بأي حال من الأحوال، أن يضع كراسة الشروط مهندسون غير متخصصين. يجب أن تكون اللجنة شديدة التنوع، وعلى أعلى مستوى.. حتى يتم وضع الشروط التي تحفظ تاريخ مصر ومبانيها الأثرية.
التفكير في تطوير وسط القاهرة.. ليتحول إلى مدينة ملاهٍ وأبراج ومولات، هو كارثة واضحة المعالم. سوف يحاسب التاريخ من قام بذلك، لأنه أهان القاهرة.. عاصمة مصر والمصريين. لابد أن يتقدم المستثمر بمشروع متكامل، يُدرس بدقة.. لأنه ليس من حق هذا الجيل، ولا هذه الحكومة.. أن تهدر تاريخ مصر ومستقبلها.
وسط القاهرة ملك لكل مصري، ولذا فمشروع التطوير لابد أن يكون معلناً للشعب كله، وللمتخصصين.. لدراسته ومناقشته، ولا يكفي على الإطلاق أن يجلس رئيس الوزراء مع المستثمر الخليجي، وينتهي الأمر. ويكون النقاش فقط على المبلغ.. الذي سوف يتم دفعه.
إن طريقة التطوير، وشكل القاهرة الخديوية في النهاية.. هو الأهم. لا مانع أن يكسب المستثمر، وهذا حقه، ولكن حقنا أيضاً أن نحافظ على منطقة غالية من الوطن، ويجب ألا ننسى أن بناء القاهرة الخديوية.. كوَّن بعض ديون الخديو إسماعيل، التي أدَّت في النهاية إلى وضع مصر تحت صندوق الدين، وفقدنا حريتنا وإرادتنا وتم احتلال مصر.
هذا الثمن الغالي – الذي دفعته مصر – لا يمكن إهداره.. بسبب الرغبة في تطوير شيء لجمع بعض الأموال. هناك أشياء لا تُقدَّر بمال. هل يمكن لحاكم أن يبيع الأهرامات أو معبد الكرنك؟
تطوير وسط القاهرة.. مشروع جيد، ولكن بشروط شديدة الدقة، وموثقة، ومتفق عليها.. من ثقات المهندسين المصريين الخبراء، ومن الرأي العام المصري. هذا أمر لا يجوز أن يتم في غرف مغلقة، بل بعد دراسة من خبراء مصريين.. يعلنون موافقتهم على المشروع، ولهم الحق في مراقبته أثناء التنفيذ. بهذا فقط، يمكن أن يكون المشروع مفيداً لمصر ومستقبلها.
تطوير القاهرة الخديوية، سوف يدر إيراداً للخزينة المصرية، ليساعد في حل المشكلة الاقتصادية، ولكنه يجب أن يعيد روعة منطقة وسط القاهرة لتصبح منطقة نفخر بها ونحبها، وفي نفس الوقت ترتفع قيمة المباني والشقق، وتفتح المطاعم، ويعاد افتتاح دور السينما بعد تجديدها، وتصبح منطقة جاذبة للسياح.. للإقامة بها، لأنها تحتوي على كل ما يلزم السائح، بالإضافة إلى قربها من المتحف المصري بالتحرير.. الذي سوف يستمر عرضه آلاف القطع الموجودة بالمخازن، وقربها من المتاحف الموجودة داخل مجمع الأوبرا وعروضها. وهي قريبة من مصر القديمة بكنائسها الأثرية، ومعبد عزرا الأثري. وقريبة جداً من الأزهر وحي الحسين ومنطقة الجمالية وخان الخليلي.
وهي أيضاً قريبة من النيل والنزهة النيلية، وكلها جاذبة للسائح. هذا هو المشروع الذي يجب أن يتحقق، ويحقق عائداً للمستثمرين، ويحافظ على تراث مصر، ويحيي جزءاً من المدينة.. ليعيش ألف عام.
(قوم يا مصري.. مصر دائماً بتناديك)
نقلاً عن «المصري اليوم«