Times of Egypt

الغرور وغضب «العميد»

M.Adam
وجيه وهبة 

وجيه وهبة

في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي (1932)، أثناء وزارة «إسماعيل صدقي»، طلبت الحكومة من عميد كلية الآداب «المنتخب»؛ الدكتور «طه حسين».. منح الدكتوراه الفخرية لبعض من الشخصيات العامة. رفض «العميد» طلب الحكومة، وعدَّه تدخلاً في شؤون الجامعة. أصدر وزير المعارف «حلمي عيسى» قراراً.. بالتخلص من هذا العميد المناوئ للحكومة دائماً، وذلك بنقله من الجامعة إلى ديوان الوزارة، في منصب كبير مفتشي اللغة العربية. رفض «طه» تنفيذ القرار، فتم فصله. 

أما مدير الجامعة حينها – أستاذ الجيل «أحمد لطفي السيد» – فقد استقال احتجاجاً على انتهاك التقاليد الجامعية ومفهوم استقلال الجامعة.

استنفر قرار حكومة «صدقي» – المجحف – «طه حسين»، فكتب سلسلة من المقالات في جريدة «كوكب الشرق»؛ يقرع فيها أداء «صدقي» وحكومته.. بأسلوب لاذع، يبين عن تزيُّد وتحامل أحياناً، يمكن تفهُّمه في إطار الظلم الواقع عليه – أدبياً ومادياً – من جراء فصله من الجامعة. ومن أحد تلك المقالات مقالاً بعنوان «غرور»، نعرض لشذرات دالة مما جاء فيه. يقول «العميد»:

■ «إذا رأيت في النظام السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي شراً واقتنعت بأن إزالته واجبة، وبأن إقرار الخير مكانه أمر محتوم، كان من حقك أن تدعو إلى ما ترى. وكان من الواجب عليك أن تلحَّ في الدعوى لما ترى. وكنت آثماً في حق نفسك إن كتمت رأيك وأخفيته عن الناس. وكنت آثماً في حق الناس إن لم تدلَّهم على مواطن الشر في حياتهم، ولم ترشدهم إلى ما فيه المنفعة والخير».

■ «.. قد نخطئ في الخلط بين الحق والواجب، وقد نغلو في تقدير هذا الحق وهذا الواجب. وقد يضطرنا هذا الخطأ وهذا الإسراف إلى أن نريد الإصلاح فنسيء، ونقصد إلى الهداية فنضلَّ، ونتعمَّد الإرشاد فنتورط في الاعتداء».

■ «نقتنع بالرأي، فيغرُّنا هذا الاقتناع، ويخيَّل إلينا أننا نحن وحدنا المصيبون، وأن غيرنا جميعاً مخطئون. ثم لا نلبث أن يملكنا هذا الغرور، ويدفعنا إلى إهدار الحرية. وإذا نحن نحاول أن نفرض آراءنا على الناس فرضاً، وأن نكرههم على ما نحبُّ لهم من الخير إكراهاً. وإذا نحن نزعم لأنفسنا العصمة ونبرِّئها من الخطأ، ونقدِّس آراءنا تقديساً، ونتخذ الذين لا يشاركوننا فيها أعداءً، ونسير فيهم سيرة الأعداء.. ولعلك حين تريد أن تفهم الأزمة.. التي اضطرَّنا إليها رئيس الوزراء والذين يؤيدونه، لم تجد لها تفسيراً غير هذا الغرور، الذي يتورط فيه أصحاب الآراء السياسية والاقتصادية والاجتماعية».

■ وعن تغيير «صدقي» وأنصاره للنظام الانتخابي يقول «العميد»:

«.. رأوا أن سلطة البرلمان إذا اتسعت، وبعدت حدودها، لا تُمكِّنهم من البقاء في الحكم.. إن أوصلتهم إليه المصادفات، ورفعتهم إليه الظروف، فأرادوا تخصيص الانتخاب وتضييقه. وأرادوا تقييد سلطان البرلمان والقصَّ من جناحه..».

■ وعن سخط الجماهير وإعراضهم عن سياسات ودعاوي «صدقي»، يقول «العميد»: «وزاد هذا السخط صدقي وأصحابه.. إيماناً بآرائهم وثقة بها، فألحُّوا فيها وأصرُّوا عليها. وما هي إلا أن اغترُّوا بهذه الآراء، وأسرفوا في الغرور، فاعتقدوا أنها وحدها الحق، وأنها وحدها الخير، وأن غيرها باطل، وأن غيرها شر. ثم أخذوا يفكرون ويقدرون، وجعلوا يهيئون ويدبرون.. ليفرضوا آراءهم هذه على الناس فرضاً، ويدفعوا الناس إلى آرائهم هذه كرهاً، بعد أن أعياهم الإقناع».

■ «.. لم يكن رئيس الوزارة – يوم ألغى الدستور (دستور 23) – إلا خارجاً على النظام، مسيئاً إلى القانون، ومسيئاً إلى الأمة كلها. ذلك أن الإصلاح السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي لا ينبغي أن يُفرض على الناس فرضاً، ولا أن تؤخذ به الجماعات وهي كارهة له، معرضة عنه».

■ بلغ الحنق واللدد في الخصومة مداه مع «العميد»، فنجده يستنكر بشدة تشبيه البعض لإسماعيل صدقي وإصلاحاته في مصر.. بموسوليني وهتلر، وإصلاحاتهم ما في بلديهما، فبعد إشادته بإنجازات «هتلر» و«موسوليني»، يبين «العميد» أن الفرق بينهما وبين «صدقي»، هو في كيفية الوصول لكرسي الحكم، فكل من «هتلر» و«موسوليني»، «جاهد وعانى في نشر آرائه.. في دعوة سلمية للخير(!!) وإقناع الجماهير، فحصلوا على الشعبية والزعامة.. التي هيأت لهما الوصول لكرسي الحكم»، في حين أن «صدقي» «لم يجاهد في نشر رأيه، ولم يلحَّ في الدعوة إليه، ولم يلق في ذلك شيئاً من الأذى. ولم يتعرَّض في ذلك لشيء من المكروه. وإنما هُيِّئت له الأسباب ودُبِّرت له الأمور، ثم أُجلس على كرسي وأُعطي أعنَّة الحكم.. وهو على هذا كله، لم يكتفِ بأن تُهيَّأ له الأمور في غير جهد ولا مشقة، بل أخضع أمته لضروب الجهد وألوان المشقة فعكس الآية، وآثر نفسه بالراحة في سبيل الإصلاح، وآثر أمته بالشقاء والعناء في سبيل ما يراه إصلاحاً».ا.ه

واقع الأمر، أن حكومة «إسماعيل صدقي» قد أخطأت – بل أجرمت ـ في حق الرائد «العظيم طه حسين»، وحق الجامعة وحق البلاد، وكان «صدقي» ديكتاتوراً بلا جدال، ولكنه لم يكن ديكتاتوراً بلا مآثر. ونتساءل، تُرى هل كان «العميد» ضد الحكم الديكتاتوري بصفة عامة، أم ضد ديكتاتورية «صدقي» فقط، لما ناله شخصياً منها؟ مع ملاحظة أن السياق الزمني – في تلك الفترة – كان يبين عن تعاطف وإعجاب شخصيات مبرزة عديدة من النخبة المصرية، بكل من «هتلر» و«موسوليني» كإصلاحيين!!. 

ولكن لذلك قصة أخرى.. قصة الهيام الشرقي القديم بالديكتاتوريين والطغاة، سنعرض لها مستقبلاً.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة