Times of Egypt

العقل الديني الوضعي وتحدي الذكاء الاصطناعي التوليدي

M.Adam
نبيل عبدالفتاح

نبيل عبدالفتاح..
نظرة طائر على الحياة الرقمية.. على وسائل التواصل الاجتماعي العربية، تستطيع أن تلتقط ظواهر دينية متناقضة.. بين الجموع الرقمية الغفيرة، أولاها.. تحويل وسائل التواصل الاجتماعي إلى فضاءات للسجالات الدينية.. حول السرديات التاريخية للنصوص المقدسة والفقهية، وإزاء أنماط التدين السائد في المجتمعات العربية؛ وذلك ارتحالاً من الحياة الدينية الفعلية إلى الحياة الرقمية، من خلال المنشورات، والتغريدات، والفيديوهات الطلقة الوجيزة جداً.
الخطابات الرقمية الدينية، تحمل في أعطافها نزوعاً لدى بعض الجموع الرقمية الغفيرة لبناء مكانة دينية.. من خلال اللغة الدفاعية عن التدين، أو اللغة الهجومية، والتداخل فيما بينهما في ذات الخطاب، في مواجهة خطابات أخرى، أو تأويلات مخالفة لما هو سائد في أنماط التدين الشعبي الشائعة، ومحمولاتها من العادات، والحكايات الدينية، والأمثولات، والحكم الشعبية، وبعض الأساطير، خاصة الشائعة في الأرياف، والبوادي، والصحراء، وهوامش المدن المريفة وقيعانها.
بعض الخطابات التدينية، تحاول تحويل النقاشات والأخبار والقصص المتداولة.. حول بعض الفنانين والفنانات والسياسيين والجرائم العنيفة… إلخ؛ من حدودها في السلوك الاجتماعي، أو الإجرامي إلى المجال الديني الوعظي، وتحويرها من محض أخبار وأقوال، وأفعال يومية أيا كانت.. إلى سياقات تدينية، لإطلاق الأحكام الفقهية، أو الدينية الشعبية والثنائيات المتضادة الحلال والحرام، والمشروع واللامشروع في الإدراك الديني الشعبي السائد.
ثمة خطابات أخرى – على الحياة الرقمية – تتسم باللاأدرية، أو الإلحادية.. التي تزايدت وتنامت خلال جيلي ألفا، وزد Z . بعض هذه الخطابات وجد في الحياة الرقمية مجالاً واسعاً للتعبير عن مواقفهم اللاأدرية، والإلحادية إزاء الأديان. كانت الخطابات اللادينية المضادة محجوبة عن الظهور والتعبير عنها في الحياة الفعلية.. خشية من اتهامها بالكفر والمروق، ومن الملاحقات القانونية، أو من مواقف المؤمنين بهذا الدين، أو ذاك، ومذاهبه تجاه المؤمنين بها!
كان تداول هذه الخطابات.. يتم بين المعتقدين في اللاأدرية، أو الإلحاد، خلسة. بعض هذه الخطابات والمؤمنين بها، كانت تظهر ظلالها في بعض الأعمال الأدبية، في مواربة، أو عبر إشارات، أو شخوص في الأعمال الروائية، أو المسرحية، أو النصوص الشعرية، في بعض القصائد، كانت ردور الفعل على هذه الإشارات الإلحادية، أو اللاأدرية.. تتسم بالحدة الشديدة، والعنف، واللجوء إلى السلطة الدينية الرسمية فى بعض البلدان العربية، طلباً لمنعها وتدخلها لمصادراتها أو تقديم الشكاوى من بعضهم ـ رجال دين، أو محامين، أو مواطنين عاديين ـ إلى الجهات الامنية، والنيابة العامة، طلباً لمنع هذه الأعمال الأدبية، وتحويل الكتاب او بعض الفنانين إلى المحاكمة. هذا الاتجاه أياً كانت مصادره ـ شخصية أو حزبية أو من جماعات سياسية دينية متشددة أو سلفية ـ قامت بتوظيف الأعمال الأدبية سياسياً ودينياً، أمام قواعدهم التنظيمية والبيئة الحاضنة لهذه الجماعات، للترويج لخطاباتهم الأيديولوجية حول الدين.
هذا الاتجاه خلط– ولايزال – بين الأعمال الأدبية وتخييلاتها، وشخوصها، وعوالمها في الخيال الأدبي، وبين الواقع الفعلي أو التاريخي، وذلك للهيمنة على العقل الإبداعي.. على نحو ما ظهر مراراً وتكراراً في بعض البلدان العربية، وصل الأمر إلى مراقبة الأغاني. الحياة الدينية الرقمية، باتت مجالاً دينياً وسياسياً مفتوحاً على مصراعيه؛ سواء لشخصيات حقيقية، أو شخصيات مصطنعة لتمرير آرائها التكفيرية، أو التفسيقية للآخرين.
امتدت السجالات والمجادلات بين المذاهب داخل ذات الدين حول العقائد والشخصيات والرموز والسرديات التاريخية المتعددة، وذلك في نزاعات تدور بين الدفاع والهجوم. الأخطر بين الأديان وبعضها بعضاً.. عبر خطابات المؤمنين بها، والمتطرفين دفاعاً عن أديانهم، وإثبات الاختلافات بين هذه الاديان، أو أولوية أو استعلاء كل دين على الأديان الأخرى!
حالة من التسونامي الرقمي الديني الوضعي توظف وسائل التواصل الاجتماعي في الاستعراض الديني، بعد تحول الحياة الدينية الرقمية إلى سوق دينية ـ محلية ووطنية وإقليمية وعالمية – يمكن أن تحقق لهم مكانة وذيوعاً لبعض الفاعلين الدينيين الرقميين.
الملاحظ هنا، أن توظيف الحياة الرقمية وأدواتها هو توظيف ديني أداتي، ومن ثم لم يؤثر على العقل الديني الوضعي النقلي، وجوهر وبنية خطاباته الدينية، وعمليات التفكير، ومناهجه في تحليل الظواهر الرقمية أو الفعلية الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والعلمية والأدبية، والفنية، أو السرديات التاريخية أياً كان مجالها دينياً، أو سياسياً، أو اجتماعياً، أو أسطورياً!
أدت الشركات الرقمية الكونية الرأسمالية إلى ظواهر جديدة، منها تسليع التدين، ومعها الجموع الرقمية الغفيرة، والفاعلون الدينيون داخلها، وعبرها. بات التدين سلعة رقمية يتم تداولها واستهلاكها، إلا أن المتغير النوعي الجديد يتمثل في الذكاء الاصطناعي التوليدي، ودوره في المجال الديني، حيث بدأت مؤشرات دالة على دوره في أداء وظائف المؤسسات والسلطات الدينية ـ أياً كانت الديانات والمذاهب، والسرديات، والفقه والتفسير واللاهوت ومدارسه التاريخية والمعاصرة ـ حيث يقدم الآراء المختلفة في كل مسألة دينية عقدية، أو طقوسية وتاريخية، وعلى نحو مقارن، وأيضاً إبداء الرأي فيها على نحو ما بدأ فعلاً، وفي المستقبل سيستطيع أن يقدم آراء أكثر تبلوراً، ودقة، وتحليلاً حول العقائد الدينية المختلفة والآراء الفقهية أو اللاهوتية المسيحية أو التوراتية أو البوذية أو الكنفوشوسية… إلخ، بل ويقدم الفتاوى، والردود على اسئلة السائلين من الجموع الرقمية الغفيرة. لا شك في أن أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي ستتطور، وستؤثر على نحو كبير على الأجيال الشابة والقادمة، خاصة الصبية والفتيات، بل وبعض الأطفال.
هذا التحول في الذكاء الاصطناعي التوليدي، بات يمثل تحدياً كبيراً للسلطات الدينية الرسمية، وللجماعات الدينية والسياسية أياً كانت أيديولوجياتها الدينية الوضعية حول المقدس، وإزاء المؤسسات الدينية الوضعية اللاسماوية. في سياقات المستقبل المنظور، وتطور الذكاء الاصطناعي التوليدي، سيؤثر على فاعلية ووظيفة رجل الدين المتخصص ومدى تأثيره على الوعي الديني للتابعين لهذه الديانة، أو تلك. من ثم سيشكل تحدياً كبيراً على رجال الدين. يتطلب مواجهة هذا التحدي استيعاب هذه الصدمة الرقمية الهائلة، من خلال تجديد العقل الديني الوضعي النقلي، وقيام هذه المؤسسات بتجديد مناهج العلوم الدينية الموروثة، وفي تحرير الدين من بعض السرديات التاريخية الوضعية الضعيفة حول الدين والمذهب أياً كانت!
تغيير المناهج التعليمية الدينية وإصلاحها يتطلب مقاربات مختلفة للسرديات الدينية النقلية الموروثة، وأيضاً لتحرير نظريات التفسير والتأويل الديني من القيود التي تحول دون إبداع تفسيرات تواجه أسئلة عصرنا المتغير، وفائق السرعة، والتغيرات الجيلية التي باتت تمثل تحولاً في إدراك الظواهر والأفكار والموروثات من خلال تفكيرها الرقمي، وسلوكها بين الرقمي والفعلي.
من هنا لابد من الانتقال من النقل الى العقل، خاصة أن العقل الرقمي، ليس عقل الحداثة، وفلسفاتها المتعددة، وإنما هو عقل مختلف، وسيمثل قطيعة معرفية مع مألوف العقل الحداثي ومواريثه السياسية والثقافية والاجتماعية، وتجاه الدين – ومذاهبه أياً كانت – والسياسة والثقافة.. إلخ.
سيشكل التسونامي الرقمي والذكاء الاصطناعي التوليدي والروبوتات، تحدياً ضخماً ونوعياً للسلطات الدينية الإسلامية الرسمية، والجماعات الإسلامية السياسية والسلفية، وهو ما يحتاج إلى مقاربات تجديدية وإصلاحية للتعليم الديني، وللفكر الديني السائد، خاصة أن الحياة الدينية الرقمية في حالة من التغير فائق السرعة فى ظواهرها، التدينية، وذلك لمواجهة هذه التحديات الجديدة في عالمنا، والرأسمالية الرقمية الجديدة، وهو ما سوف نتناوله في المقال القادم.
نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة