Times of Egypt

العشوائية في تدمير المدينة والإنسان

M.Adam
محمد أبو الغار 

محمد أبوالغار 

أعيش في حي الدقي.. منذ كنت تلميذاً في قصر العيني في بيت العائلة. وخرجت من الدقي عاماً واحداً عند زواجي.. لأعيش في شقة مفروشة في الزمالك. ثم عدت مرة أخرى للدقي، ورفضت الانتقال إلى كومباوند خارج القاهرة. وكان الدقي حياً هادئاً، والشوارع كلها بها أشجار جميلة، وبالقرب من الحي.. كانت هناك أسواق ومحال؛ بحيث كان هناك اكتفاء ذاتي. وفي وسط الحي، يحتل نادي الصيد – بمساحة خضراء واسعة – جزءاً كبيراً، وكانت وزارة الزراعة بمبناها الأثري، والأرض الخضراء حوله.. تحفة معمارية. وحول وزارة الزراعة، كانت هناك مشاتل وأماكن زراعية. 

في العامين الماضيين – وضمن الهجمة على الأشجار والطبيعة والآثار التي طالت مصر كلها – تم نزع عدد كبير من الأشجار القديمة في الشوارع.. بدون سبب واضح. وبسبب الفوضى والرشاوى.. في تصاريح البناء – التي بدأت منذ عدة عقود – تم هدم عدد كبير من الفيلات، وبناء عمارات مرتفعة ومخالفة لقانون الارتفاعات، وبدون بناء جراجات. وأدى ذلك تدريجياً إلى ازدحام الشوارع، ومشاكل ركن السيارات. وبدأ شكل الحي – في بعض المناطق – يتغير تدريجياً. وحدثت هجمة تتارية حكومية منذ عامين.. على الحديقة الجميلة أمام وزارة الزراعة، وتم إنشاء عشرات المطاعم.. التي لا نعلم من هم أصحابها، وأدى ذلك إلى التدمير البيئي للمنطقة، والتلوث والفوضى. الحكومة لا تهتم بما هو ضار بالبيئة والمواطنين، ولا راحتهم ومستقبل المدينة. 

حي الدقي يتميز بأنه.. كان يجمع مختلف طبقات المجتمع المصري، التي تعيش في تناغم وتجانس، فكانت هناك فيلات واسعة بحدائق جميلة، وهناك عمارات رائعة.. بناها معماريون عظام، مازالت محتفظة بكيانها وخدماتها. وهناك مناطق بها منازل جيدة، تعيش فيها الطبقة الوسطى.. عماد مصر وسبب نهضتها. وانقراضها سبب لاضمحلال الوطن، ومعظم هذه العمارات تدهورت حالتها. ومثل كل أحياء القاهرة، نشأت بجوار الدقي بعض العشوائيات، ولكنها صغيرة في الحجم، ومحصورة في مناطق صغيرة. 

الدقي به أعظم مدارس مصر.. من عصر ما قبل المدارس الأجنبية باهظة المصاريف. مدرسة الأورمان.. كانت تعتبر أهم مدارس مصر، وأنجبت الكثير من عظماء مصر، وكانت مجانية حكومية، والتدريس بها على أعلى مستوى. والكثير من أوائل الثانوية العامة من خريجي هذه المدرسة. وهناك المدرسة الألمانية العريقة – التابعة للحكومة الألمانية – وكانت مصاريفها بسيطة، وفي مقدور الطبقة الوسطى، وكانت تدرس البرنامج الألماني، وكانت مهتمة باللغة العربية، وخريجوها أصبحوا علامات هامة في المجتمع المصري. 

حديقة الأورمان.. أنشئت في عهد الخديو إسماعيل عام 1875، وأشرف مهندسون من ليون على تخطيطها، وكانت مساحتها 95 فداناً، وتم استيراد أنواع نادرة من الأشجار من مختلف أنحاء العالم.. لزراعتها بها. تسلمتها وزارة الزراعة عام 1910، واقتُطعت أجزاء منها.. ضُمَّت إلى حديقة الحيوان، وأجزاء إلى جامعة القاهرة، وأصبحت مساحتها 28 فداناً. وهي من كبرى الحدائق النباتية في العالم، ومجموعتها النباتية تضم 100 فصيلة نباتية و600 نوع من النباتات، وبها قسم لتبادل البذور مع الحدائق النباتية في العالم. 

هذه الحديقة المهمة يتم تطويرها الآن. وكلمة تطوير في هذا الزمان.. أصبحت كلمة مرعبة؛ لأن هناك أماكن أثرية وهامة.. تم تطويرها لتفقد قيمتها، وتتحول إلى سوق ومطاعم. ولو سمحت المساحة لكانت فنادق. وللأسف؛ تطوير الأورمان.. لا يعلم عنه الشعب شيئاً، فلم يُعرض على الناس.. كيف سوف يتم تطويرها، ومدى تأثيره على الأشجار والنباتات الأثرية، وهل سوف يتم بناء محلات وأشياء أخرى تضيع أهمية المكان، فحدائق النباتات في العالم.. لها نظام وقواعد وأصول علمية. لكن لا أحد يعلم ما هي نتيجة التطوير. 

حي الدقي به المتحف الزراعي.. الذي كان جزءاً من سراي الأميرة فاطمة إسماعيل (بنت الخديو إسماعيل)، وقد تم فصله ليصبح المتحف الزراعي المصري عام 1927. هو أول متحف زراعي في العالم، ويضم آلاف المعروضات.. التي تحكي تاريخ الزراعة في مصر منذ عصر قدماء المصريين. والمتحف به مقتنيات ونباتات نادرة، ونماذج للآلات الزراعية. ومنذ 15 عاماً – وفي زيارة للمتحف – لاحظت وجود لوحات زيتية لرواد الفن التشكيلي المصري.. لا تُقدَّر بثمن، موجودة في طرقات بعيدة، وقد كتبت مقالاً عن خطورة ترك تلك اللوحات، وعلمت أنها رفعت. ولا أدري هل خصص لها قاعة تعرض فيها، أم هي في المخازن، وقد أعلن الأسبوع الماضي عن قرب افتتاح للمتحف بعد تجديده. 

مبنى وزارة الزراعة الأثري، وحديقته الضخمة.. أحد معالم الدقي؛ تم بناء القصر عام 1910 وتم تجديده عام 1931، وتم حديثاً إخلاء المبنى وإغلاقه، وكتب في الصحف.. عن عرض خليجي للاستثمار، وبناء فندق عالمي.. في منطقة سكنية، مع إزالة جزء هام من تراث مصر. نادي الصيد هو أحد معالم حي الدقي، تأسس النادي عام 1939، ومساحته 55 فداناً.. من الأراضي المشجرة، والملاعب الخضراء. وهو – وحده – يعطي متنفساً للهواء النقي للمنطقة، ويحمي مساحة كبيرة من التدخل الأهوج للحكومة.. ببناء المطاعم العشوائية أو تدمير الأشجار. انتشار ظاهرة الشحاتين مرتبطة بالفقر المدقع، وحيث إنه تم حجب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن مستوى الفقر.. مخالفة لجميع قواعد الشفافية، إلا أنه واضح ارتفاع نسبة الفقر في مصر بشكل مرعب. 

وفي النهاية أود أن أحكي ما دفعني لكتابة هذا المقال، وهو أنني في الأسبوع الماضي.. نزلت عدة مرات لأسير في شوارع قريبة من المنزل، أو العيادة.. في هذا الحي؛ فهالني منظر رهيب.. تكرر عدة مرات. سيدات بسيطَات – لسن شحاذات، ولا يمددن أيديهن – يفتشن في صناديق القمامة، ويأخذن منها نفايات الطعام.. أو أشياء أخرى. وسيدة أخرى التقطت زجاجة ماء بلاستيك بها قليل من الماء.. ملقاة عند مدخل عمارة. ما رأيته مذهل، مواطنات محترمات فقيرات، لكن لا يشحذن ،وإنما يبذلن مجهوداً في البحث في صناديق الزبالة، حتى يساعدهن على البقاء على قيد الحياة. 

أرى أن الموقف صعب إنسانياً.. على كل مصري يعيش في بيت أو يركب سيارة، وهو مهين لنا جميعاً، ولكن ماذا تفعل الحلول الفردية؟ لن تحل المشكلة. 

هذه مسؤولية الحكومة، التي يجب أن تفكر سريعاً.. في تغيير توجهها الاقتصادي، ونوع مشروعاتها. أرى وضعاً إنسانياً بائساً، واجتماعياً خطيراً على الوطن. 

(قوم يا مصري.. مصر دائماً بتناديك).

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة