Times of Egypt

العربة والحصان 

M.Adam
د. أحمد يوسف أحمد  

د. أحمد يوسف أحمد 

أشعر بأنني تناولت فكرة هذه المقالة.. عديداً من المرات، وعبر منابر كثيرة، وهي فكرة التركيز على العَرَض دون المرض، وخلط الأوراق، ووضع العربة أمام الحصان وليس خلفه. وهي فكرة شائعة الآن – إن لم تكن سائدة – في جميع المساعي المخلصة (وغير المخلصة).. التي تُبذل حالياً لمعالجة المشكلات التي عصفت بالسلم والأمن في المنطقة – وبالذات بعد 7 أكتوبر 2023 – وهي تقدم مثالاً شديد الوضوح.. على المنطق المغلوط السابق – وأقصد به التركيز على العَرَض دون المرض، ووضع العربة أمام الحصان – فأصل ما جرى ويجري في المنطقة منذ 7 أكتوبر 2023 أن «مجموعة من الإرهابيين القتلة قد باغتوا إسرائيل بهجمات وحشية، ولابد من اجتثاثهم إن كان لإسرائيل أن تنعم بالأمن». وبطبيعة الحال تتماهى الإدارة الأمريكية – سواء في ظل رئاسة بايدن أو ترامب – مع وجهة النظر هذه، ومعها غالبية دول التحالف الغربي. 

 ورغم الاختلاف حول تقييم ما جرى في 7 أكتوبر الماضي – حتى بين بعض مؤيدي القضية الفلسطينية – فإن الهدف من ذكر هذا المثال ليس تقييمه، وإنما التركيز على أنه يمثل «العَرَض» وليس «المرض».. في تحليل الأمور.  

أما المرض، 
فهو المشروع الصهيوني.. الذي تُرْجِم – على جزء من أرض فلسطين – إلى دولة في 1948، ثم أكملت هذه الدولة احتلالها لما تبقى من أرض فلسطين في عدوان يونيو 1967، ومارست كل صنوف الظلم والإذلال والمهانة تجاه الشعب الفلسطيني، وتغولَتْ في الاستيطان اليهودي لأرضه؛ وهو ما نرى الآن تداعياته في الجرائم التي ترتكبها عصابات المستوطنين في الضفة.. تجاه أصحاب الأرض وممتلكاتهم، بل وحيواتهم. 

 وكان منطقياً – بالنظر لهذا كله – أن تتصاعد مقاومة أصحاب الأرض، وتبدع في أساليبها.. من انتفاضة الحجارة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، إلى انتفاضة الأقصى في مطلع هذا القرن، وتنجح في إجبار إسرائيل 2005 على سحب قواتها من غزة، بل وتفكيك المستوطنات القريبة منها.. خشية أن تطولها أيدي المقاومة. غير أن استمرار الحصار الإسرائيلي لغزة، كان يعني بالضرورة استمرار المقاومة وتصاعدها. 

 ومن هنا، تكررت اعتداءات إسرائيل على غزة.. منذ السنة التالية لانسحابها، وازدادت الأمور سوءاً.. بالتركيز – منذ 2020 – على استكمال تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، على النحو الذي سمح لنتانياهو بالقول إنه لا توجد مشكلة فلسطينية. وإن الهدف هو استكمال التطبيع، وفي إطاره يمكن أن يُحل أي شيء. وفي هذا السياق – أي سياق تراجع القضية الفلسطينية لحساب تطبيع الدول العربية مع إسرائيل – خرج رجال المقاومة في 7 أكتوبر 2023.. في محاولة لإنقاذ قضيتهم من التصفية، فهم يمارسون حق شعبهم المشروع.. في مقاومة الاحتلال الذي أنهك وطنهم. 

وثمة مثال ثانٍ مهم – في ظاهرة التركيز على العَرَض دون المرض، ووضع العربة أمام الحصان – هو هستيريا إسرائيل حول نزع سلاح المقاومة؛ سواء في غزة أو لبنان.. بحجة ضمان أمنها. بينما حقيقة الأمر، أن هذا السلاح موجود.. لأن إسرائيل هي التي تعصف بأمن الآخرين. فهي في غزة والضفة، تحتل أراضٍ.. دعاها مجلس الأمن – في قراره 242 لعام 1967، أي منذ قرابة 60 عاماً – للانسحاب منها؛ بغضِّ النظر عن أساطيرها الدينية والسياسية.. بأن هذه هي الأرض التي وعد الرب اليهود بها، وهي تمارس – في احتلالها – كل صنوف العصف بحقوق الفلسطينيين.. بما فيها حقهم في الحياة. وهي في لبنان تحتل أراضٍ من أراضيه، وتعتدي عليه – كلما رأت لذلك سبيلاً – تارة بحجة وجود مقاومة فلسطينية على الأرض اللبنانية، وأخرى متذرعة بأعمال المقاومة اللبنانية ضدها؛ سواء من أجل تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة، أو إسناد المقاومة الفلسطينية، كما حدث بعد 7 أكتوبر 2023. 

 وهو عمل تستنكره إسرائيل، وتعاقب «حزب الله» ولبنان عليه، مع أنها – وهي الدولة بالغة القوة – تستعين بالمجهود الحربي الأمريكي.. في كل مواجهاتها الماضية والحالية. ولذلك فإن المقاومة، وسلاحها – سواء في فلسطين أو لبنان – ما وُجدا إلا لدرء العدوان الإسرائيلي عليهما، وإذا كانت إسرائيل تريد اتقاء خطر المقاومة عليها.. فلتُقدِم على ما يزيل أسبابها؛ أي لتوقف الحرب على غزة، وتوافق على الانسحاب منها، وتتصرف بموضوعية.. في رسم معالم اليوم التالي فيها، بحيث يكون يوماً فلسطينياً.. وليس إسرائيلياً كما تريد. أما أن يتصور نتانياهو.. أنه من الممكن أن يستمر في تصريحاته – التي لا تدع مجالاً لشك، في أنه لا يريد من أي صفقة.. سوى الإفراج عن الرهائن، ليعاود بعدها اعتداءاته على غزة، وقتل أهلها بدم بارد.. قصفاً وتجويعاً، ويصر على النموذج الحالي لتوزيع المساعدات، الذي أجمع الكل على أنه تحول لمصائد للموت لأهل غزة، ويمول ويسلح عصابات المتطرفين الانتهازيين من الفلسطينيين.. الذين أجمعت فصائل المقاومة على هدر دمهم – ويتصور بعد ذلك أن تقدم المقاومة سلاحها له.. على طبق من ذهب، بينما هي تربكه على أساس يومي.. بما تلحقه به من خسائر، فهذا هو الوهم بعينه. 

 وعلى الصعيد اللبناني، يواصل نتانياهو احتلاله أراضٍ لبنانية، وانتهاكاته لاتفاق وقف إطلاق النار الموقع مع الحكومة اللبنانية في نوفمبر الماضي، ويضغط – في الوقت نفسه – باستخدام الولايات المتحدة.. من أجل نزع سلاح «حزب الله»، بغض النظر عن التعقيدات الداخلية لهذه العملية فإن النهج الوحيد الصحيح لإتمام هذه العملية الضرورية.. لاستكمال مقومات الدولة اللبنانية، دون التسبب في إشكاليات تهدد استقرارها، والسلم الأهلي فيها.. هو الانسحاب الإسرائيلي الشامل من كل شبر من الأراضي اللبنانية، مع تقديم الضمانات الكافية لأمن لبنان. وهنا تستقيم الأمور.. لأن المرض سيُعالج فتختفي أعراضه. 

والأمثلة كثيرة على نهج وضع العربة أمام الحصان.. يضيق بها حيز المقال.  

لكن النتيجة واضحة، وهي أنه طالما استمر هذا النهج، فإن الأمل في استقرار مستدام في هذه المنطقة من العالم.. يبدو حلماً بعيد المنال. 

نقلاً عن «الأهرام» 

شارك هذه المقالة