د. نيفين مسعد
في بغداد عقدت «مؤسسة إنكي للدراسات والبحوث» – قبل نحو أسبوعين – حلقة نقاشية مهمة مع السيد عمَّار الحكيم.. مؤسس تيار الحكمة الوطني، حول موضوع «الشراكات الإقليمية، كمسار استراتيچي لدعم الاستقرار الإقليمي». الحلقة النقاشية التي أدارها الدكتور علي فارس – العميد الأسبق لكلية العلوم السياسية جامعة النهرين – أتت في ختام المسابقة البحثية الأولى لمؤسسة إنكي، التي تنافس فيها باحثون من دول مختلفة في الشرق الأوسط. وذهبت إحدى الجوائز القيِّمة للمسابقة – في فرع الإعلام – إلى أكاديمية مصرية شابة.. من إحدى جامعات الجنوب.
وكما هو واضح من عنوان الحلقة النقاشية، فإنها تنطلق من استخدام مفهوم الشراكات الإقليمية.. كبديل لمفهوم القيادة السياسية، وتتخذه مدخلًا لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في المنطقة. وبالنسبة للعراق، ركَّز السيد عمَّار الحكيم على أن أخذه بالتشارُك.. يعود لسببين أساسيين.
السبب الأول: هو التحوُّل بالعراق من ساحة للتنافس بين القوى الدولية والإقليمية.. إلى نقطة للالتقاء والتشبيك معها.
وهذا التحوُّل بدأه العراق بالفعل.. من عدة سنوات بانفتاحه على جواره العربي، وبقيامه بدور الوساطة بين العرب ودول جوارهم، وهذه الوساطة منها ما هو معلن كما حدث في الوساطة بين السعودية وإيران لاستئناف علاقاتهما الدبلوماسية، ومنها ما هو غير معلن لأسباب مختلفة.
أما وقد تعافى العراق من الانقسام الداخلي والحرب على الإرهاب ومخاطر التقسيم، فإن هناك حاجة لتطوير شراكاته الإقليمية العربية وغير العربية وتوسيع نطاقها. وأشار بالتحديد إلى أهمية قيام ما يسمَّى مجموعة (6+5)، أي دول مجلس التعاون الخليجي مع كلٍ من العراق ومصر والأردن وإيران وتركيا، باعتبار هذه الدول الإحدى عشرة.. تمثّل أهم ركائز الاستقرار في الشرق الأوسط.
أما الأمر الثاني: (الذي أشار إليه السيد عمّار الحكيم)، فهو أن العراق في هذه المرحلة – من مراحل تعافيه – إنما يعطي الأولوية لتحقيق مصلحته الوطنية.. على الانشغال بحديث القيادة. ومنطقه في ذلك.. أن مجرد وضع كلمة قيادة في جملة مفيدة، من شأنه أن يستفز الآخرين، ويثير الهواجس، ويستعدي دول المنطقة. وبالتالي فمن الأوفق – من وجهة نظر السيد الحكيم – أن يركِّز العراق على إحراز النُقطة، بدلًا من انشغاله بأخذ اللَقطة. وتساءل في هذا الإطار: «هل المهم إدخال الكرة في المرمى؟ أم القول إن العراق أدخل الكرة في المرمى؟.. إذا أردت النقطة والهدف، عليك أن تتساهل في اللقطة».
أعجبتني الدعوة للتمييز بين النُقطة واللَقطة، أو كما مازحت السيد عمَّار الحكيم.. بقولي: إنه يمكن تطوير هذا التمييز، ليكون بين اللَّقطة بفتح اللام واللُّقطة (الفرصة) بضمها. فلقد وجدتُ منطقًا عاقلًا وراء عدم اللهاث وراء القيادة.. في وقت يصعب فيه على أي دولة – مهما بلغ تكامل عناصر قوتها – أن تتصدَّى لممارسة القيادة بمفردها، وحالة إسرائيل خير شاهد على ذلك.
ففي الشهور الأولى التالية على عملية طوفان الأقصى، تصوَّرت إسرائيل أنها قادرة على قيادة الشرق الأوسط، وإعادة تشكيله.. بما يخدم أطماعها التوسعية. لكن – بالتدريج – أخذت تشابكات المصالح الدولية والإقليمية وتعقيدات الأوضاع السياسية في المنطقة.. تفرض نفسها، وتخفض من سقف التوقعات الإسرائيلية. صحيح أنه لا يمكن ادعاء أن حلم تهجير سكان غزّة قد تبدَّد، إلا أنه تأجَّل.. بعدما كان على وشك أن يتحقق.
ومن الصحيح.. أن التوسُّع الاستيطاني في الضفة الغربية مستمر، لكن الرفض الأمريكي (والأوروبي) حال دون ضمِّها لإسرائيل. وحتى في سوريا – التي احتلت إسرائيل مساحات شاسعة من أراضيها – فإن المصالح الأمريكية مع تركيا، رسمت حدود التنافس الإسرائيلي-التركي.. بما لا يسمح لأيهما بالانفراد بالسيطرة على سوريا. هذا، إضافة إلى أن إسرائيل فشلت في تحقيق الهدف الأول المعلن.. لعدوانها على غزَّة، والمتمثِّل في القضاء على «حماس».
وخلاصة ما سبق، هي أن إسرائيل تستطيع أن تؤكد أنها حققت مكاسب إقليمية.. منذ السابع من أكتوبر 2023، لكنها لا تستطيع أن تزعم أنها تقود المنطقة بمفردها. وإذا كان هذا ينطبق على إسرائيل، فإنه – من باب أولى – ينطبق على أي دولة أخرى في الشرق الأوسط، وهذا يعني أن الانخراط في إعادة تشكيل الشرق الأوسط.. مطلوب بالتأكيد من كل دوله، لأن الدولة التي تبتعد تُعزَل، ويُفرَض عليها الأمر الواقع، لكن من دون الوقوع في وهم القدرة على الانفراد بالقيادة.
نأتي لمسألة شراكة (6+5) التي اقترحها السيد عمَّار الحكيم، وهي – في تقديري – فكرة تحتاج أن نأخذ جوهرها، وأن نتناقش في تفاصيلها. بمعنى أن من المطلوب – بالتأكيد – بناء علاقات جيدة مع الجارتين الإقليميتين الكبيرتين.. تركيا وإيران، بحيث يتم التعاون معهما في القضايا موضع الاتفاق، كما يجري التنسيق معهما في القضايا موضع الخلاف. أما مسألة المطالبة بقيام شراكة معهما، فإنها تنطلق من افتراض أن علاقات دول الخليج الست ومصر والعراق والأردن.. بكلٍ من إيران وتركيا، هي من طبيعة واحدة، وهذا الفرض يحتاج إلى مراجعة، إذ من الصعب أن نجمع علاقة العراق بإيران.. في نفس السلَّة مع علاقة الأردن بإيران، أو نعتبر أن علاقة مصر بتركيا.. تقف في مربع واحد مع علاقة قطر بتركيا، فهناك تفاوتات بين أنماط العلاقات العربية-التركية-الإيرانية.. من المهم أخذها بعين الاعتبار.
وبشكل عام، فإن الشراكة تأتي، بعد أن تكون العلاقات قد وصلت إلى مرحلة من الاستقرار والثقة المتبادلة.. بما يسمح بانتقالها من مستوى التعاون والتنسيق، إلى مستوى أعلى؛ بما يضمن لها ألا تنتكس. وإلى حين يتحقق ذلك، توجد مساحات كثيرة.. لتقاطُع المصالح، والعمل المشترك.. مع الجارتين الإقليميتين. وهناك بالفعل تحرُّك في عدد من هذه المساحات كما هو الحال في قضية غزَّة مع تركيا وفي ملف البرنامج النووي مع إيران.
ومن جهة أخرى، فإن مبادرة السيد عمَّار الحكيم تستبعد دول المغرب العربي.. من تفاعلات الشرق الأوسط، وهذا بدوره يحتاج إلى إعادة نظر. ولئن لم تكن تركيا وإيران.. دولتَي جوار مباشر للجناح الغربي للوطن العربي، إلا أن بينهما وبين دول المغرب قضايا معلَّقة.. تحتاج إلى إدارة نقاش من حولها.
نقلاً عن «الأهرام»