Times of Egypt

العراق تاني مرة

M.Adam
نيفين مسعد

نيفين مسعد

في شهر يونيو الماضي كتبتُ مقالاً في نفس هذا المكان بعنوان «بغداد أول مرة»، وتحدثتُ فيه عن زيارتي الأولى للعاصمة العراقية وما تولَّد عنها من انطباعات. لكن هذه الزيارة – التي امتدَّت قرابة أسبوع – لم تكن كافية بالتأكيد.. لرؤية كل المعالم العراقية؛ فنحن إزاء بلد عربي كبير وعريق، يتميَّز بتنوُّعه الحضاري والسكاني المبهر. وعندما أتيحت لي زيارة العراق للمرة الثانية، كانت فرصة لإعادة المرور على بعض المعالم البغدادية، التي لم تنل حظها من التأمل والاستمتاع، كما واتتني الفرصة للخروج قليلاً إلى خارج العاصمة، والذوبان أكثر مع الناس.

***

ألَّا ترى شارع المتنبي يوم الجمعة، فستظل معلوماتك عنه ناقصة، ولقد تصادف أن زُرته المرة الأولى في غير هذا اليوم، فأحببتُ أن أتعرَّف عليه أكثر. قصدته في زيارتي الأخيرة في السابعة والنصف صباحاً، وكانت الحركة قد أخذت تدب فيه، وعلمتُ أنه يظل على هذا الحال من الحيوية حتى أذان الظهر، ثم يخف الإقبال عليه بالتدريج. في المكان، روح تشبه روح سور الأزبكية؛ من حيث المكتبات التي يغصّ بها، وتبيع المخطوطات الأثرية والكتب.. من كل لون؛ من أول الفكر الشيوعي.. وحتى الفكر الديني، ومن الاقتصاد.. للأدب والفن. لكن شارع المتنبي أكثر من مجرد مساحة لبيع الكتب. إنه بازار.. بكل معنى الكلمة، وفيه يمكنك أن تجد شيئاً من كل شيء؛ ملابس جديدة ومستعملة، ومستلزمات سيارات، وهدايا تذكارية، ومحال للمرطبات يعود أحدها إلى عام 1900.. أي من قرن وربع بالتمام والكمال. 

استوقفتني لوحات تشكيلية رفيعة المستوى لفنانين عراقيين، وصور بكل الأحجام لشخصيات عامة عراقية وعربية وعالمية، وعلى الناحيتين جلس فنانون جاهزون لرسم بورتريهات لمرتادي الشارع.. كما هو الحال في العديد من العواصم العالمية. وأمام واحد من هؤلاء الفنانين، جلسَت طفلة صغيرة بشعر أسود منسدل.. تتصنَّع الوقار. على باب سوق السراي – الذي يتفرَّع من شارع المتنبي – وتتناثر فيه المقاهي الصغيرة، طلبتُ من أحد المارة أن يلتقط لي صورة بموبايلي، فابتسم ابتسامة لطيفة قائلاً: لوحدتش لُو وِياي؟ (لوحدك والا معايا). ضحكتُ من قلبي وأجبته: واحدة كده، وواحدة كده. وفي الممر المفضي إلى إحدى الندوات الثقافية.. حول الشاعر الكبير بدر شاكر السياب – رائد الشِعر الحر – كانت تباع مصنوعات خشبية، عليها حفر باللغة السومرية.. إحدى أقدم لغات العالم، فبدا الأمر وكأن السائر في هذا الممر.. ينتقل من تاريخ إلى تاريخ.

***

بطول الطريق الدولي.. الذي أخذني – مع شابتين لطيفتين من مصر وإيران – إلى كربلاء المقدسة، كان رأسي يشتعل بالفضول. صادف يوم زيارتنا.. ذكرى وفاة السيدة فاطمة بنت حزام، إحدى زوجات علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، والملقبة بأم البنين. رُزقت منه بأربعة أولاد.. استشهدوا جميعاً في معركة كربلاء، وبينهم العباس – قائد جيش الحسين (رضوان الله عليه)، وساقي المحاربين بعدما مُنع عنهم الماء، وهذا يفسِّر العبارة التي ترتفع فوق مسجده الفخم.. بنقوشه الزرقاء البديعة، وتقول «السلام عليك يا ساقي عطاشى كربلاء». تركت السيدة فاطمة من ورائها كربلاء – بعد استشهاد جميع أبنائها – ورحلت إلى المدينة المنورة.. إلى أن توفَّاها الله. وفي ذكراها تقام مجالس العزاء في المساجد والحسينيات، ومن باب أولى في كربلاء، حيث يفصل ممشى طويل بين العتبتين (القبرين/المرقدين/الضريحين) الحسينية والعباسية، وإلى هذا الممشى الطويل، أشارت لنا الشابة الإيرانية قائلة: هنا دارت معركة كربلاء.

***

بخلاف الطريق الدولي – الذي مضينا فيه – يوجد طريق آخر مخصَّص.. للمارَّة الذين يأتون من كل صوبٍ مشياً على الأقدام.. لزيارة قبر الحسين بن علي، خصوصاً في يوم عاشوراء وفي ذكرى الأربعين. يقطع الزوَّار الطريق في عدة أيام – أربعة أو خمسة، أو أكثر أو أقل.. حسب نقطة الانطلاق – وعلى امتداد الطريق، ينتشر متطوعون لتقديم كل الخدمات الممكنة؛ من أول الوجبات الساخنة وغسل الملابس وحتى المبيت. سألتُ السائق: هل كانت الزيارات ميسَّرة في ظل حكم البعث؟ ردَّ: كان الذهاب بالسيارات متاحاً لمن يشاء في أي وقت، أما الزيارة مشياً على الأقدام.. فلم يكن مسموحاً بها. كلما اقتربنا من كربلاء تكثر صور الحسين، وتنتشر اللافتات.. التي تشير إلى الفضائل الكثيرة لزيارته، والبكاء على آله وصحبه، حتى انتهينا إلى لافتة كبيرة.. مكتوب عليها «حماية كربلاء المقدسة أمانة في أعناقنا». مررنا بأكثر من نقطة واحدة من نقاط التفتيش، وبعدما اجتزناها جميعاً، سَبَحنا في أمواج بشرية تِلو أمواج.

***

زوَّار من كل الأعمار، عراقيون وإيرانيون.. يتزاحمون على صلاة العصر في آخر لحظة – قبل أن تغرب شمس يوم 13 جمادى الثاني – وتحمر أشجار النخيل بفعل الضوء المبهر.. الذي يغمر المكان. عائلات بالكامل.. تفترش هذه البقعة من الأرض، التي شهدت معركة كانت نقطة فاصلة في تاريخ المسلمين، ويا لها من نقطة. حاولتُ أن أدخل للصلاة، فكدتُ أُعتصَر.. بالمعنى الحرفي للكلمة. اتخذتُ قراراً بالخروج، لكن احتاج منِّي الأمر مجهوداً جبَّاراً.. كي أفتح ثغرة في هذه السلسلة البشرية من النساء المتشحات بالسواد، وأفلتُّ بالكاد. اكتفيتُ بقراءة الفاتحة أمام مسجد ابن بنت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ودعوتُ لأسرتي ولأسرة صديق عراقي.. حمَّلني أمانة الدعاء. هذا الجثمان الطاهر للحسين يمثِّل حلقة وصل بين كربلاء والقاهرة، ومحبَّة المصريين لآل البيت.. ثابتة.

***

في زيارة الدول الكبيرة.. مهم جداً التخطيط، وحُسن استخدام الوقت، وقد حاولتُ أن أفعل قدر الإمكان، لكن ما زال أمامي الكثير لزيارته، فزيارة كردستان – مثلاً – تنقل ضيف العراق إلى عالم جديد.. مختلف في لغته وعاداته – وسياسته أيضاً – و«لو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة». قبل أن نصل إلى مطار بغداد الدولي، مررنا بموقع تفجير موكب قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني، وأبي مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في 3 يناير 2020، ومرافقيهما. حوَّل التفجير سيارات الموكب إلى قطع من الحديد الصدئ بعضها فوق بعض، وتُرك هذا الركام.. شاهداً على مجرد فصل واحد من فصول الصراع الإقليمي والدولي على العراق.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة