نبيل عبدالفتاح
حالة انفجار مليارات الصور، والفيديوهات الطلقة، والمنشورات والتغريدات على الحياة الرقمية، شكَّلت حالة تحوُّل في علاقة الفرد الرقمي بذاته، والآخرين، والواقع الفعلي، في ظل ثورة الاستهلاك الرقمي، والفعلي، والتفاعل فيما بينهم، على نحو متسارع فائق السرعة.. كسمت الحياة المعاصرة في ظل الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي التوليدي. في عام 1967 أصدر فيلسوف الأممية الرابعة جاي ديبور Guy Debord كتاباً ذائع الصيت (مجتمع الاستعراض)، ثم (التعليقات على التعليقات). كان الكتاب تحليلاً فلسفياً، وسوسيولوجياً للتحول لمجتمع الاستهلاك المفرط في كل تفاصيل الحياة، وتفجير الرغبات واللذات الحواسية، بما فيها الإفراط الجسدي في الجنس.
حركت النزعة الاستهلاكية، وانفجار ثورة الطلاب – في جامعة كاليفورنيا بيركلي الأمريكية والسوربون عام 1968 – العالم نحو التحوُّل إلى أنماط الاستهلاك المكثف، ومن ثم لعلاقة الفرد بالوجود، والمعنى في الحياة، وبات كلاهما مرتبطاً بالاستهلاك المفرط في إشباع رغباته، وحواسه، وتغيير أنساق القيم، وإلى بعض من التحولات السياسية الكبرى، واستقالة شارل ديجول في فرنسا. كل ما هو حقيقي تحول إلى تمثيل واستعراض، ومن ثم تلاشى العالم الواقعي، وحلت محلّه علامات الواقعي، التي تمنح الوهم للعالم الحقيقي، وفق جي ديبور.
هذا الوصف المعمق، بدا آنذاك وكأنه تخييل فلسفي، إلا أن تطورات الاستهلاك المفرط، ومداراته في ظل نظم الإنتاج الرأسمالية الكبرى، جعلت من تفجير النزعات والدوافع الاستهلاكية في كل تفاصيل الحياة إلى حالة من الوجود الإنساني، وجعلت من الإنسان/الفرد موضوعاً لسياسات الشركات الرأسمالية الكبرى، وعالم المصارف، ومن ثم إعادة التشكيل للرغبات والميول الاستهلاكية، وجعلت الإنسان/الفرد أسيراً لسياجات النزعات الاستهلاكية، والاقتراض المستمر من المصارف لإشباع دوافعه الاستهلاكية.. المتنامية بوتائر عالية، حيث يتم إعادة النظرات إلى الذات والوجود والمعنى، من خلال كميات الاستهلاك المتغير.
أثرت التطورات التقنية – في إطار وسياقات الثورة الصناعية الثالثة – على بعض عمليات إعادة تشكيل الوجود والشرط الإنساني. ومن ثم كانت الكاميرات الفوتوغرافية، وثورة الصور والسينما، والتلفازات، التي تعيد تشكيل نظرة الإنسان، إلى ذاته، وإلى الآخرين، والمجتمع، والنظرة إلى العالم. من هنا ذهب جي ديبور إلى أن «ليست الفرجة مجرد نتاج تقنيات التعميم الواسع للصور فحسب، بل هي رؤية فعلية للعالم».
مع بدايات الثورة الرقمية، والثورة الصناعية الرابعة.. شكل الانترنت وفضاءاته ثورة اتصالية استثنائية، وبعدها التحول الرقمي، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي أثرت على مفاهيم السياسة، والثقافة والحب والصداقة، والدين والمذهب، والأسرة، والجنس، واللذة، ونظام المأكل والمشرب، والزي… إلخ.
من هنا أصبحت المنشورات، والتغريدات، والصور الرقمية، والفيديوهات الوجيزة أحد مصادر إعادة تشكيل الرغبات، والدوافع الاستهلاكية، من خلال تحليل الشركات الرقمية الكونية للبيانات الضخمة BIG Data – (وهي فضاءات من المعلومات.. التي يعيش فيها الفرد الرقمي/ الفعلي كل يوم، وساعة، ودقيقة من تفاصيل وتفضيلات من زيتابايت الواسعة من البيانات.. التي تتدفق من خلال الحواسيب والأجهزة النقالة وأجهزة الاستشعار الآلية) وفق الخبراء في هذا الصدد – ويتم بيعها للشركات الكونية العملاقة.. كل في مجال تخصصه وعمله، لاستخدامها في وضع سياسات الإنتاج للسلع، والخدمات، وإعادة تشكيلها، وفق تحليل هذه الدوافع والرغبات والتفضيلات.. للجموع الرقمية الغفيرة، المعبر عنها على وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية.
الأهم – في هذه السياقات الفائقة السرعة والتغير، ومع ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي – باتت مسألة الوجود، والمعنى في حالة من التوهان.. تختلف عما كان سائداً في حالة التحول من الحداثة وما بعدها، وعالم المابعديات نحو مرحلة مهمة، تمهدُ لقطيعة مع ما ألفه الفرد والمجتمعات، والأديان، والفلسفات في المراحل التاريخية السابقة.. حول الشرط والوجود الإنساني، ومسألة المعنى في الحياة.
أدت انفجارات وتوسونامي الصور والفيديوهات الرقمية الطلقة والمنشورات، والتغريدات المستمرة، إلى حلول الإنسان الرقمي واستعراضاته في مشاهد التواصل الاجتماعي المتغيرة، وإلى بعض من الازدواجيات، بين السلوك الفعلي والرقمي، وتأثير التمثيل والاستعراضات الرقمية – عبر الصور والفيديوهات الومضاتية – على الوجود الفعلي. من هنا كان تركيز الفرد الرقمي على ذاته، ومعه الجموع الرقمية الغفيرة، حيث الصور الرقمية، والفيديوهات الوجيزة جدا تتدفق على مواقع التواصل الاجتماعي.. في كل وجوده اليومي في المنزل، والشارع، والعمل، وأماكن التنزه، وفي تفاصيل الحياة اليومية المتعددة والمختلفة، وفي العلاقات العاطفية، والأسرية، والمساكنة، والرفقة. كل الصور والتغريدات، والفيديوهات، والمنشورات تتمركز حول الأنا!.. أنا.. أنا.. أنا موجود.
لم يعُد الحضور الصوَري الرقمي، والفيديوهاتي مقصوراً على الجموع الرقمية الغفيرة.. من العاديين، وإنما شمل هذا الولع بالصور والفيديوهات، والمنشورات، والتغريدات السياسيين، والكُتاب، والممثلين والممثلات، بعد نهاية عصر ومفهوم الشهرة. انتقل ما كان يطلق عليهم نجوم السينما والمسرح والغناء.. من كبار السن، ومن صغارهم، والمبتدئين.. إلى وسائل التواصل الاجتماعي؛ باحثين عن حضورهم الرقمي، لأن وجودهم في الحياة الفعلية هامشي، ولم تعد بعض الأجيال الشابة، واليافعين، والأطفال يعرفون أحداً منهم/منهن في الواقع الفعلي، ولا السينما، ولا المسلسلات التلفازية، ومن ثم يلجأون إلى الاستعراضات الجسدية، والآثارية والشفاهية، والتي تتناول حياتهم/حياتهن، وتفاصيلها في خلافاتهم مع بعضهم بعضاً، وعلاقاتهم العاطفية.
لم تعد سلطة الصور الرقمية، والفيديوهات الرقمية الومضاتية – التي سبق أن أطلقنا عليها هذا الوصف – مقصورة على الفنانين، وإنما امتدت إلى معارض الفن التشكيلي، وتصوير اللوحات، والمنحوتات، والأعمال المركبة، أو على خلفيات الصور الشخصية للفنان التشكيلي والنحات، أو الصور التي تلتقط سيلفي لإثبات وتوثيق الحضور معه، أو رغبة بعض الحضور في إثبات أنهم/أنهن ممن يتذوقون الفنون التشكيلية دلالة على مكانتهم/مكانتهن الاجتماعية، وثقافتهم.. بقطع النظر عن مستوى معرفتهم ووعيهم وتذوقهم الفني، أو أنهم من السراة، والطبقة الثرية في المجتمع!
وفي المسرح، اختزلت المسرحيات في الصور الرقمية التي تدور حول الممثل/الممثلة، والمخرج، ويبدو المسرح والمتفرجون في خلفيات الصور، أو جزء من تفاصيل الصور الومضاتية.. دلالة على الحضور التمثيلي، والعمل في إطار المسرحية. في الحياة الاجتماعية الفعلية، يتم تصوير المناسبات في المطاعم، والمشارب، والمقاهي، ومعها الصور الناطقة بالابتسامات، والضحكات المفتعلة التي تحاول التعبير عن السعادة، أو البهجة الكاشفة على الاستعراض. من ثم بات الهاتف المحمول، واللوح الرقمي أهم مركز وأداة في الحياة وتفاصيلها اليومية في المركبات العامة، والخاصة، والطريق العام، والعمل، والمنزل، وجلسات الرفقة وزمر الرفاق والأصدقاء، وبات يُعتبر مؤرخاً وموثقاً شخصياً وجماعياً في كل جزئيات الحياة اليومية.
الهوس الصُوَري الومضاتي، بات مركز الرغبات والدوافع.. لدى الكتل الرقمية الغفيرة، والأفراد الرقميين، ومع ذلك أثرت حالة وزمن السرعة الفائقة، وتغيراتها، إلى أن يغدو أثر الصور والفيديوهات الومضاتية فائق السرعة، ومن ثم يضيع هذا الأثر الومضاتي، ويجعل من الفرد الرقمي لا يشفي ويشبع دوافعه، إلا من خلال الصور الومضة الأخرى المتتالية. وأثرت بعض البرامج والأدوات الرقمية، على كثافة الاستعراض من خلال إحداث تعديلات في الصور، وشكل الشخصية لتغدو أكثر جمالاً في ملامحها، وتفصيلات الوجوه، والجسد، والابتسامات,.. إلخ! على نحو يكرس النزعة الاستعراضية، والتمثيلية.. لا الحضور الفردي الحي، الطبيعي في كل حالاته، حتى في لحظات الحزن، والفقد، والفرح والبهجة، والسعادة التي تبدو غائبة، وحل محلها الاستعراضات.
نقلاً عن «الأهرام»