نيفين مسعد
هذا هو المقال الثاني والعشرون.. في سلسلة مقالات الشخصية القبطية في الأدب المصري. ومقال اليوم عن رواية «الشيخ عبادة».. للكاتب ماهر فرغلي، وهي الرواية الصادرة عن دار ميريت في 2012. وتنفرد هذه الرواية بأن كاتبها انتمى للجماعة الإسلامية.. في قرية الشيخ عبادة بمحافظة المنيا، وبسبب هذا الانتماء، حُكم عليه بالسجن لمدة 14 عاماً، وبالتالي فإننا إزاء شهادة من قلب تنظيم متطرف.. له رؤيته الخاصة للمجتمع، والأقباط جزء لا يتجزأ منه بالتأكيد. وتدور أحداث الرواية في فترة التسعينيات، وهي الفترة التي شهدت أعنف المواجهات مع التنظيمات الدينية المتطرفة في مصر بشكل عام، وفي صعيدها بشكل خاص.
***
يصف الكاتب عائلة الحاجة دميانة.. بأنها «رمز كل المسيحيين في القرية»، وكما تبدأ بها الرواية، وتقدم بطاقة تعريفية.. بأسرتها وثروتها ومسكنها، فإنها تنتهي بها أيضاً.. وهي تؤكد أنه – رغم كل الأهوال التي مرَّت بها – «موش هتعيش القرية بغير حب».
تحظى الحاجة دميانة – أو كما تُنادى اختصاراً بالحاجة – بمحبة كل أهل القرية.. لأسباب كثيرة. لا تُقصِّر دميانة في مجاملة أي أسرة داخل القرية. وهي إنسانة بلا عُقد طائفية؛ فهي تتبرَّع لصندوق نذور مسجد الشيخ عبادة، كما تتبرع لفقراء الأقباط، وهي تختار الذهاب إلى طبيب مسلم.. لأنه الأكثر كفاءة، وعندما يراجعها أحدهم قائلاً.. إنه في مسائل الحياة والموت، يُفضَّل اللجوء لأهل الثقة. ترد عليه قائلة: «يا حكيم يا ابني.. على أيامنا ما كنا نفرق بين حكيم مسلم ومسيحي». ثم إن دميانة امرأة قوية، وأعصابها من حديد؛ فبعد أن تنتهي من تشييع جنازة الوِلد ووِلد الوِلد، تفاتح ولدها الآخر في أمر زواجه.. من منطق أن الحي أبقى من الميت، وتقول له – وهو في حالة ذهول مما يسمع – «لازم تستعيد ثقتك بالحياة». ودميانة لا تُرد لها كلمة، فعندما أمرت بمعاقبة أحد أبنائها.. بالحرمان من معظم الميراث، وقررت نفيه – بمعنى إبعاده عن البيت والقرية – عُلِم ونُفِّذ.
***
وينسج الكاتب شبكة من العلاقات الإنسانية المعقدة.. بين أبناء الحاجة دميانة، وبعض الأسر القبطية في القرية؛ فالابن الأكبر غالب رجل خمسيني مخنث، أرادت أمه تزويجه من مريم القبطية.. المتزمتة؛ التي قررت الرهبنة بزواجها منه، بدلاً من أن تدخل الدير. لكن غريان – شقيق غالب – يحب مريم، ويستخسرها فيه، ويحقد عليه.. إلى حد أنه يحاول قتله، ويخطط لقتل زوجته (نفسه) بعد ذلك، ليخلو له الجو مع مريم؛ فلا طلاق في المسيحية إلا لعلّة الزنا. تشاء الأقدار أن ينجو غالب.. من الموت على يد أخيه غريان، ليموت آخر الرواية على يد محمود – ابن العمدة – عندما فتح النار على سامي.. الشاب القبطي الذي تحبه أخته شادية، فيموت سامي ومَن في جواره.. وبينهم غالب عم سامي.
ولمزيد من تشبيك العلاقات وتعقيدها، نعرف أن سامي القتيل.. له أخت تُدعى ماري، تحب حكيم.. الشاب القبطي الذي لا يدانيها في ثروتها، لكنه حاصل على درجة الماچستير. حكيم ممتلئ بالسخط على وضع الأقباط.. في قرية الشيخ عبادة، يشعر بالغضب والكره في عيون المسلمين، وتؤلمه تصرفات تبدو بسيطة.. لكنها «مُذّلة»؛ كأن يرفض المدرس المسلم الظمآن.. أن يسقيه أخوه، لأنه قبطي. وفي هذه الظروف يقرر حكيم الهجرة إلى الولايات المتحدة.. لمواصلة دراساته العليا. وهناك تلتقطه إحدى الجماعات المسيحية-اليهودية.. ذات المآرب السياسية من وراء الاهتمام بأقباط مصر. يقول حكيم – مخاطباً أستاذه – «يا دكتور ديمون.. إنَّ دماً قبطياً حاراً ما زال يتدفق، وإن ما يصلكم بعض مما يحدث، وهؤلاء دماؤهم في رقابكم»، فيشكره الدكتور ديمون.. لأنه جعل الصورة تبدو أوضح.
***
تشرح لنا رواية ماهر فرغلي، كيف تسلَلت الجماعة الإسلامية إلى قرية الشيخ عبادة.. خطوة خطوة، حتى تمكَنَت منها، وأحكَمت عليها سيطرتها. تبدأ الجماعة بتقديم الخدمات المختلفة لأهل القرية.. مستغلة الضعف الشديد في الإمكانيات، والغياب التام للحياة الاجتماعية، وتشرع في استقطاب الشباب.. حتى لو اقتضى الأمر إغراءهم بالذهاب للسينما في ملّوي.. على بُعد كيلومترات قليلة من قرية الشيخ عبادة. ثم تأخذ الجماعة في عقد حلقات لتلاوة القرآن، تتطور لاحقاً إلى دروس دينية، ومن خلالها يتم استعداء الدارسين.. على «النصارى واليهود»، وكذلك على الحكام المتواطئين معهم.
وبعد ذلك، يأتي الدور على انتزاع مسجد القرية من قبضة الدولة، وإنزال الخطيب الأزهري من على المنبر. وبينما يحدث ذلك، يقف العمدة وشيخ البلد.. وهما مغلوبان على أمرهما. وأخيرررررراً.. يحين موعد استعراضات القوة، وفرض قوانين الجماعة على أهل القرية؛ الأكل بالشوكة والملعقة بدعة، وركوب السيارات مكروه، والأفراح تقام على الطريقة الإسلامية؛ فلا رقص ولا غناء، ولا شيء غير الدفوف. والاحتفال بمولد الشيخ عبادة – الذي كان يجتمع فيه الكل – لا بد أن يتوقف، والإتاوات/الجزية تُفرَض على الأسر القبطية، ماذا وإلا…
أما حين تنشأ علاقة بين قبطي ومسلمة، فإنها الكارثة بعينها. وهكذا، فعندما ذاع أن سامي القبطي.. يحب شادية المسلمة، هدَّده أمير الجماعة الإسلامية في القرية الشيخ شعبان.. على رؤوس الأشهاد. وزاد الطين بلّة، أن شعبان كان قلبه معلّقاً بحب شادية، ولذلك فإنه تعمَّد خلط الأوراق ببعضها البعض.. فادَّعى أن شادية مسحور لها، وزاد واستطرد قائلاً: «والظن عندي أنه سحر نصارى!».
يفتح لنا الكاتب قوسين، ليقول إن الحاجة دميانة كانت تخشى – هي نفسها – من تعلّق سامي حفيدها.. بشادية، وكانت تبث خشيتها لابنها قائلة: «أنا خايفة من الموضوع ده يا رأفت». لكن ما سبق، لا ينفي أن الجماعة الإسلامية كانت على قلب رجل واحد. فالرواية تصوِّر لنا الصراع داخل الجماعة على النفوذ، حتى إن الشيخ شعبان – بعد أن طارد عليًّا ليجنده – بدأ يقلق منه، وتطور هذا الحال.. إلى مستوى آخر من الصراع بين الجماعة الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين. وكأن الجميع وحَّده السجن، وفرَّقته الحرية.
***
ويُسلّم الضابط المسؤول عن ملف التطرف الديني.. بوجود بعض الغلوّ في المعالجات الأمنية، لكنه يسجِّل – في الوقت نفسه – أن السجن كان هو الورقة الأخيرة في يد الدولة.. بعد أن احترقَت كل الأوراق السابقة. وتأتي شهادة شعبان – أمير الجماعة في القرية – لتؤكد على ما قاله الضابط؛ وذلك أنه حين سأله الضابط السؤال التالي.. «قل لى يا شعبان بصراحة، إنتم ممكن تغيَروا أفكاركم؟» ردَّ عليه الأمير بصراحة تُحسَب له، «أقول بصراحة لا.. ولكن موش عارف أقول إيه».
كما يجعل الكاتب يعترف، بأن توزيع السلاح على أهل القرية.. لحماية أنفسهم وممتلكاتهم، قد دفعهم لإساءة استخدامه. قال الضابط «إحنا أخطأنا لما أعطيناكم السلاح.. لتحاربوا به الإرهاب، فاستخدمتموه في سفك الدماء وتحصيل الإتاوات». وكانت الحاجة دميانة قد قالت – في أحد مواضع الرواية – إنها لا تعرف بالضبط. ما إذا كانت الإتاوات مفروضة عليهم من الجماعة الإسلامية، أم من الأهالي. وهذا يعني أن تسلّح أهل القرية، جرى توظيفه لتحقيق هدفين اثنين: ترويع الجميع، وابتزاز الأقباط.
***
في اتصال هاتفي مع الكاتب ماهر فرغلي، سألته لماذا انضم إلى الجماعة الإسلامية – وهو المحب للموسيقى والأدب – فردّ: إضافة إلى العوامل الأسرية، «كانت الجماعة هي الحاكمة في تلك الفترة.. داخلة في المواريث، تحل المشاكل، تتحكم في الأمن داخل الجامعة والسكن، وفي الوقت نفسه.. لا توجد أحزاب سياسية ولا مسرح، وسينما ملّوي مغلقة من 20 سنة».
ونفهم من ذلك، أن الارتباط بالجماعة.. كان وسيلة لتحقيق الذات وملء الفراغ، وتلبية الاحتياجات لأبناء صعيد مصر. وفي ما يخص سؤالي عن ملابسات ابتعاده عن الجماعة الإسلامية، وعلاقة ذلك بالمبادرة التي تبنَّتها الحكومة.. لمحاورة أعضاء الجماعة داخل السجون، ردَّ «التغيير الفكري عندي، تم حوالي عام 1995 أو 1996 – أي قبل المبادرة التي بدأَت في عام 1997 وتم تفعيلها في عام 2001 – قمت بنسف الفترة كلها، وهاجَرت من القرية».
وكما عاد فرغلي من التطرف.. إلى الحياة الطبيعية، كذلك عاد شعبان – أمير الجماعة الإسلامية في القرية – بعد أن قاوم الانخراط في المبادرة الحكومية أول الأمر، ثم انخرط في حوار طويل مع ضابط أمن الدولة. قلتُ لفرغلي: «إن ملاحظتي الأساسية.. على الحوار بين الأمير والضابط، أنه حوار مباشر إلى حد بعيد»، فردَّ: العمل كله مباشر، وهذا يختلف عن روايتي الأخرى.. بعنوان «الخروج من بوابات الجحيم: سيرة ذاتية».
نقلاً عن «الشروق»