سمير مرقص
(1)
«الشيخ إمام: أكثر من ظاهرة»
حلَّت هذا العام الذكرى الثلاثون لرحيل «الشيخ إمام» (1918 ــ 1995)، وكالعادة.. لم ينتبه المعنيون بالشأن الموسيقي لظاهرة موسيقية، انطلقت في نهاية الستينيات من القرن الماضي، وظلت باقية في وجدان وذاكرة الناس العاديين إلى يومنا هذا. أي أنها لم تختفِ برحيله قبل ثلاثين عاماً، بل ظلت ــ ويا للمفارقة ــ تتمدَّد وتحصد مستمعين جدداً، ليس في مصر فقط، بل وخارجها أيضاً. أخذاً في الاعتبار أنه لم يغنِّ يوماً ــ قط ــ عبر قنوات الغناء والاستماع الرسمية، وإنما عبر الجلسات والحلقات الصغيرة جداً، ثم من خلال حزب التجمع.. مع المرحلة الحزبية الثالثة (الأولى قبل 1952، والثانية الساداتية الموجهة من 1976 إلى 1981، وثالثاً المباركية المقيدة التي بدأت في 1982)، ثم انطلاقته الواسعة في أوساط التجمعات الشبابية المصرية والعربية والأوروبية.. حتى رحيله سنة 1995.
وبالرغم من الرحيل الجسدي، إلا أنه كان دائم الاستدعاء من قبَل الناس، خاصة مع لحظات الضجر العام وحاجة الناس ــ كل الناس ــ أن يعبروا عن أنفسهم بصدق. ولعل حضور أعماله في سنوات الحراك في مصر وتونس ولبنان، واستعادتها في ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر 2019) اللبنانية، كذلك الحضور المتدفق عبر وسائل الاتصال الرقمي.. تشير إلى أصالة ما قدمه الشيخ إمام من فن قادر أن يكون عابراً للزمن.. لذا صار حقاً وواقعاً أكثر من ظاهرة ترتبط بزمن معين وسياق محدد.. لماذا؟
(2)
«الشيخ إمام: تجلٍ إبداعي أصيل وشعبي»
قبل أكثر من نصف قرن، اجتهد أستاذ الفلسفة الكبير الدكتور فؤاد زكريا.. في أن يفسر ظاهرة الشيخ إمام وشعبيته، التي اكتسبها من خارج الوسائط الإعلامية الرسمية (دورية الفكر المعاصر يناير 1969) فقال: «إننا حين نعامله على أنه واحد من المشتغلين بالموسيقى فحسب، وحين نقارنه بغيره من الموسيقيين، ونطبق عليه مقاييس هذا الفن.. فنحن إنما نعالجه معالجة سطحية، تغفل جوانب الأهمية في هذه الظاهرة»، إذ إنه – حسب فؤاد زكريا – «ظاهرة فريدة»؛ «لأنه لم يتوجه إلى الناس بوصفه فناناً فحسب، بل هو يجمع بين صفة الفنان، وصفة الخطيب السياسي والناقد الاجتماعي الساخر.. يمزج بين معنى الكلمة ونوع اللحن، إلى حدٍّ يفوق فيه – قطعاً – كل من عداه من الملحنين في بلادنا».
لذا يشعر المرء – يستطرد زكريا – «بإحساس مخلص، وصوت مرتبط بالشعب الكادح، وألحان قادرة على توصيل المعاني المصرية الصميمة إلى السامعين.. والحق أن هذا الطابع المتشابك، الذي يتجاوز الحواجز المألوفة؛ هو الذي يميز ظاهرة الشيخ إمام، ويضفي عليها طابعها الفريد».
إن هذا الطابع الفريد – في تقديري – الباقي على مدى ما يقرب من ستين عاماً، يتجاوز توصيفه بالظاهرة.. إلى كونه تجلياً ابداعياً أصيلاً وشعبياً. ومن ثم ظل عابراً للزمن. وهنا تتجلى – يقول الكاتب والناقد السينمائي والفني الأستاذ امير العمري – عبقرية الشيخ إمام في: «قدرته على تلحين كل الأنواع الموسيقية، والانتقال من لون إلى آخر، دون أن يفقد قدرته على الإمتاع، فقد لحن وغنى.. الموال، والأغنية السياسية، والعاطفية، والأغنية التحريضية، والأغنية الشعبية، والطقطوقة الساخرة…».
وفي اطار المقارنة بين الشيخ سيد درويش والشيخ إمام، نشير إلى دراسة مهمة كتبها الدكتور غالي شكري.. عنوانها: «الثورة المصرية بين الموسيقى والأغنية» – في دورية الشرارة البيروتية عام 1975 – قدَّم فيها قراءة مقارنة للسياق السياسي.. الذي أبدع فيه الشيخان، حيث قال عن الأول: «كان سيد درويش العنصر الموسيقي المكمل لبقية عناصر الثورة المصرية (يقصد ثورة 1919)»، بينما أعمال الشيخ إمام وُلدت في «سياق هزيمة تاريخية»، ومن ثم «بدا الشيخ إمام.. كالمعجزة والخوارق».
وظني أن ما ساهم في أن «التجلي الإمامي المبدع الأصيل الشعبي» كان لافتاً ومؤثراً، هو مناخ التمرد الشبابي الذي اجتاح ــ ليس مصر فقط ــ بل العالم.. فيما عُرف بثورة الشباب في نهاية الستينيات من القرن الماضي.. التي أتصورها ثورة ضد الأبويات بأنواعها. وعليه، لم يكن الشيخ إمام ظاهرة عابرة، بل تجلياً ممتداً حتى يومنا هذا، خاصة مع تنامي الحركات القاعدية الشعبية ــ أو ما اطلق عليه «المواطنيزم» أو حركة النزوع إلى المواطنية ــ في العالم كله بدرجة أو أخرى، كذلك التحولات الجيلية الطفرية.
(3)
«الإقبال الرقمي يُخلد الشيخ إمام«
ها نحن في العقد الثالث من القرن الجديد، ولا يزال الإقبال كبيراً على الاستماع إلى الشيخ إمام.. من كلمات كبار الشعراء في مصر والعالم العربي (أحمد فؤاد نجم، ونجيب سرور، وفؤاد قاعود، وتوفيق زياد من فلسطين، ولا أنسى العزيز جداً زين العابدين فؤاد، وآدم فتحي من تونس، أمد الله في عمرهما). وجمعيات ومنتديات محبي الشيخ إمام تتزايد.
كما لم أعد أفاجأ بهذا الحضور للرجل ــ مجدداً ــ من خلال التقنيات الرقمية بشتى وسائلها، حيث معظم جمهورها من الشباب مخلدة إياه. ذاك الحضور الذي لم يفقد زخمه قط، منذ رأيته فيها، هناك، في منزل العَمَّيْنِ مطلع السبعينيات؛ ثم حفلاته بحزب التجمع في الثمانينيات. وأخيراً، قبل رحيله مباشرة، في منزل صديقنا العزيز المحامي الكبير الأستاذ نبيل منير.. وأختم بكلمات شعرية (أوردها الأستاذ سيد مهدي عنبة.. في كتابه القيم «الشيخ إمام: الإنسان والفنان»؛ صدر عن قصور الثقافة 2019) للشاعر الكبير بدر توفيق (1934 ــ 2014، من جيل الستينيات صاحب ديوان قيامة الزمن المفقود، وترجم سونيتات شكسبير كاملة) واصفاً الشيخ إمام بما يلي:
حين يغنى.. تضيق عيناه الكفيفتان
بالزمن المخنوق.. يتسع الشهيق في جسمه الهش الرقيق
حرفاً فحرفاً.. نقطة فنقطة.. فاصلة ففاصلة
تصير هذه الحروف كلمة منقوشة
على أصابع اليدين حين تمسكان بالعناق والريشة
تحتد ساقاه النحيلتان..،
ويصبح العود الذى يسكن بين الساعدين
الرئة الثالثة التي تريح شيخنا.. الرئة الثالثة التي تريحنا
ونحن في مجلسه المكتظ بالسكون والآهات والضحك
تمسكنا علامات التعجب.. تمسكنا حروف الاستفهام
والكلمات الغارقات في بحار الحزن والفضيلة
يعيش ما يقول.. ووجهه المرتاع.. برق وغيوم ومطر
وصوته الآتي من البعد السحيق يبعث الحق الذي اندثر.
نقلاً عن «المصري اليوم«