سمير مرقص
«السياق الإقليمي التالي ــ المغاير»
في 30 أكتوبر 1991، احتضنت إسبانيا مؤتمراً رعته الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.. لإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط بين فلسطين والعرب، وبين الكيان الإبادي. وهو المؤتمر الذي أطلق قطار العملية السلامية ومهّد لمحطة أوسلو 1993، وما بعدها من محطات سلامية (كامب ديفيد الثانية في 2000، وأنابوليس 2007،..) لم تسفر عن سلام قط.
بل – والأخطر – هو أن مع كل محطة سلامية، كانت تتردى أوضاع جموع الفلسطينيين. إذ حولتهم إلى سجناء ــ حرفياً ــ في غزة والضفة، ما دفع المؤرخ الإسرائيلي «إيلان بابيه».. إلى أن يصف هذا الوضع بأنه «أكبر سجن على الأرض»، حسب عنوان الكتاب الذي أصدره في 2017.
وتفصيلاً، كشفت كثير من الدراسات حول صراعات الشرق الأوسط، كيف كانت تتم محاولات تصفية القضية الفلسطينية.. تحت مظلة العملية السلامية، وكيف كانت المحاولات الإسرائيلية ــ المدعومة أمريكياً ــ تدفع قطار السلام إلى السير في اتجاه مغاير، لإعادة تشكيل الشرق الأوسط في ضوء رؤية آباء الصهيونية الأُول؛ تلك الرؤية التي أعاد صياغتها بيريز تحت عنوان «شرق أوسط جديد»، وعمل نتنياهو – منذ توليه رئاسة وزراء إسرائيل في 1996 (يُعد نتنياهو أصغر رئيس وزراء للكيان الإبادي تولى هذا المنصب أكثر من مرة ولفترات ممتدة كما يلي: من 1996 وحتى 1999، ثم من 2009 إلى 2021، ومن 2022 إلى اليوم) – على إشعال الحروب بدرجات مختلفة ضد الفلسطينيين، وإقليمياً.. من أجل إعادة هندسة الإقليم ــ قسراً ــ وإنشاء ما وصفناه بسياق شرق أوسطي: مغاير.. وفقاً للرؤية الإسرائيلية التي تقوم على ثلاثة عناصر تمثل جديد الشرق الأوسط.
«إعادة تشكيل هيكل القوى الشرق أوسطية»
أول جديد الشرق الأوسط – في رؤيته الإسرائيلية – هو إعادة بناء هيكل القوى في الإقليم؛ إذ يتم في ضوء المحصلة النهائية للحروب الراهنة ــ مع الإسناد الأمريكي والتواطؤ الأوروبي.. إلا فيما ندر ــ تكريس إسرائيل، منفردة، كقوة إقليمية Only Regional Power ؛ حيث تأتي في المقدمة قبل تركيا وإيران، ثم تأتي القوى/الدول المحورية الثروية والبشرية. ومن ثم ينتقل الكيان «الإبادي».. من مجرد رأس حربة للقوى الاستعمارية التاريخية: البريطانية-الفرنسية، ثم الأمريكية؛ إلى قوة عظمى إقليمية فاعلة، في ضوء هندسة جغرافية قسرية تؤمّن الحلم التاريخي للكيان الإبادي: الهرتزلي، والبن جوريوني، والبيريزي؛ المتمحور حول التوسع الجغرافي بلا سقف.
تفعيل عقيدة التوسع وتطبيق سلام الردع
هذا الحلم الذي حكمته عقيدة التوسع Expansionism Doctrine؛ ولعله صيغته البن جوريونية التي تصدرت الكتاب السنوي لحكومة إسرائيل سنة 1952 هي الصيغة الجلية التي توضح جوهر هذه العقيدة، وذلك كما يلي: «إن دولة إسرائيل قد قامت فوق جزء من أرض إسرائيل.. ولا ينبغي القبول بفرضية وجود حدود تاريخية وطبيعية ثابتة للدولة، فالحدود تتغير.. وفق تغير الظروف والمراحل الزمنية المختلفة. ولذا لا بد من إعادة النظر في مصطلح حدود طبيعية».
وينطلق «بن جوريون».. عن قناعة بأن «الظروف قد تجبر الدولة على إعادة النظر مرة أخرى (مرات) في تعيين حدودها الطبيعية. ما يعني استحداث حدود جديدة لها.. كلما دعت الضرورة»، أو ما أطلقنا عليه مرة: «استقطاع الخرائط»؛ وقد التزم نتنياهو بتفعيل هذه العقيدة.. في ظل ما عبَّر عنه بسلام الردع Peace of Deterrence؛ وهو السلام الذي لا يقر مبدأ «الأرض مقابل السلام»، الذي لا يتوافق مع عقيدة التوسع الإسرائيلية. وعليه طرح مبدأ «السلام مقابل السلام»؛ أخذاً في الاعتبار.. أن يتضمن السلام – بالنسبة لإسرائيل – تعظيم قدراتها «التسليحية»، لأنه لن يتم السلام إلا من خلال امتلاك القوة peace through strength؛ (لمزيد من التفاصيل حول رؤية نتنياهو يمكن مراجعة كتابه سلام دائم: إسرائيل ومكانها بين الأمم A Durable Peace: Israel & Its Place In The Nations).
ونشير – في هذا المقام – إلى أن مبدأ تمكين إسرائيل من امتلاك الردع.. من أجل تكريسها قوة إقليمية منفردة من جهة، وتفعيل عقيدة التوسع، وتطبيق سلام الردع من جهة ثانية.. كان دوماً محل دعم من الولايات المتحدة الأمريكية، (ويمكن الرجوع إلى تقرير المجموعة الدراسية الرئاسية الذي قدَّمته إلى بوش الابن.. في 20 يناير 2001 المعنون: الإبحار في بحر مضطرب Navigating Through Turbulence؛ الذي ذكر فيه صراحة مساندة أمريكا للردع الإسرائيلي ــ حسب ما ورد في التقرير نقتطف Bolster Israeli Deterrence و Reinforce Israeli Deterrence ــ قد رجعنا لهذا التقرير في أكثر من مناسبة مبكراً، وذلك بداية من 2002، إذ إنه كان بمثابة دليل عمل.. لكل ما جرى في الإقليم على مدى أكثر من عشرين سنة؛ حيث أشار إلى الحروب التكتيكية.. التي كان على إسرائيل أن تخوضها ــ مثل حرب تموز 2006.. تطبيقاً لما تصوره التقرير؛ باعتبارها الحرب التي من شأنها تمهيد الطريق لإسرائيل.. لتكون القوة الإقليمية الكبرى، كما أشار إلى التمهيد والاستعداد لمرحلة ما بعد عرفات Post Arafat Era، للسير في مسار سلامي مغاير، والقبول بتركيا وإيران بعد تقليم أظافرها كقوى تالية لإسرائيل في الإقليم… إلخ).
الانخراط في اقتصاد السلام
في ضوء ما سبق، فإن العمل على التأسيس الفوري للمشروعات «الإقليمية-الميجا».. بقيادة إسرائيل، والشروع في إنشاء «الممرات الاقتصادية» العابرة للقارات.. Economic Corridors – عبر إسرائيل أيضاً – يتم ذلك تحت عنوان: اقتصاد السلام؛ ما يؤمن – ليس فقط – تحقيق الأهداف التاريخية.. التي رسمها الغرب من الشرق الأوسط، وإنما تعظيمها.. مما يصب في اتجاه الاستتباع من جانب، والاستئثار الإسرائيلي بالإقليم من جانب آخر.
وهذا هو جديد الشرق الأوسط.
نقلاً عن «المصري اليوم«