جميل مطر
للرصيف، قبل أن ينكمش أو يختفي، ذكريات طيبة. أتذكَّر نفسي في شارع فاروق، طفلاً أجلس على كتفي والدي أو عمي غير الشقيق لوالدي.. أستمتع بموكب «المحمل»، وجنود على ظهور جمال وأحصنة، كلهم وكلها في ألوان زاهية، والموسيقى العسكرية تزيدني متعة. أتذكّر أيضاً رجالاً من الحي الذي أسكنه مع عائلتي الصغيرة، يحملونني.. ونحن على رصيف شارع خيرت، لنشاهد موكب الملك فاروق متوجهاً إلى مسجد السيدة زينب.. لأداء فريضة أو لمناسبة لا أتذكرها الآن.
***
كنا لنصل إلى البيت الكبير – بيت جدتي كما كنا نسميه – يتعين أن ننزل من الترام في محطة باب الشعرية، حيث يلتقي شارع الخليج بشارع فاروق بمدخل شارع بين النهدين، حيث توجد وكالات بيع السمنة والزيوت، وبمدخل شارع أمير الجيوش الجواني، أو شارع النحاسين، المنتهي في شارع المعز، أي بقلب الجمالية. أتذكّر جيداً المشوار من محطة الترام حتى بيت جدتي.. أمشى ممسكاً بيد أمي على الرصيف الملاصق لدكاكين وورش صنع الأواني النحاسية؛ من تحف رائعة كما من لوازم المطبخ. نتجنب المشي في بطن الشارع لأنه – كما تعلمنا – مخصَّص لعربات النقل والحنطور، والحمير ومستخدميها وراكبيها، أي غير آمن للمشي فيه.
***
أتذكّر أيضاً المشهد من «علٍ».. أقصد من المشربية التي كانوا يحبسونني في داخل أحد صناديقها المطلة على الشارع، أتذكّر النغمة المتواصلة والمتناسقة.. الصادرة عن الدق على النحاسيات، من صبيان و«أسطوات» هذا الفن الراقي، يبدأ الدق في السابعة صباحاً ويتوقف في الخامسة. أتذكر أدق التفاصيل. المثير، أنني لا أتذكر أنني لمحت أحداً من هؤلاء الصبية و«الأسطوات».. يخرج من دكانه، ليحتل مكاناً على الرصيف يعمل منه. أو شاهدت بضاعتهم خرجت إلى الرصيف، ليراها ويصطدم بها الرائح والغادي، فالرصيف كان للزبون ليمشي فوقه، ولسكان الشارع؛ وبخاصة الأطفال.
***
نشأت في حي آخر.. حيث للرصيف مهام أخرى. كنا – كصبية ومراهقين – نتجَّمع كل عصرية، بعد العودة من المدرسة، على إحدى «النواصي» أي حيث يلتقي رصيفان. إحدى هذه المهام أن نكون معظم الوقت.. فى مجال ومدى رؤية الأهل؛ وبخاصة أمهاتنا. كنا إذا نسينا وتمدّدت أقدامنا تلامس أرض الشارع.. سرعان ما يلحق بنا التنبيه من أمهاتنا، لنعود إلى الرصيف. تقدّم بنا العمر وأصبحنا شباباً، وحصلنا على الإذن بالذهاب مشياً على الأقدام ليلة الخميس.. إلى «وسط» البلد، حيث تجتمع معظم دور السينما.
يبدأ المشوار إلى وسط البلد من رصيف شارع خيرت.. عند ميدان لاظوغلي وينتهي برصيف شارع عدلي.. المنتهي عند سينما مترو، مروراً برصيف شارع نوبار.. الذي يسلمنا بدوره إلى رصيف شارع شريف، ومنه إلى رصيف شارع عدلي.. الذي يُلقي بنا إلى رصيف سليمان باشا؛ حيث شباك تذاكر السينما. سلسلة من أرصفة كادت تكون مترابطة ومتواصلة. أمان كامل.
***
أتذكّر أننا. كنا نتعامل مع «النواصي» – أي مع نقاط التقاء رصيفين – باعتبارها أبراجاً للمراقبة، علينا – كما سبق وذكرت – ولكن أيضاً على غيرنا. كانت من مهامنا المشروعة.. حماية بنات الجيران من تحرشات يُقدم عليها غرباء عن الحي، وبخاصة هؤلاء العابرون شوارعنا في طريقهم إلى حي عابدين، أو حي السيدة زينب، أو سعد زغلول أو المنيرة، ومنهم تلاميذ المدارس الثانوية المحيطة بالحي الذي نسكنه.
***
سكنت لست سنوات ضاحية قرطاج.. في تونس العاصمة. هناك، في أحد أجمل شوارعها، كنت أصعد الشارع في اتجاه الطريق الرئيسي إلى العاصمة، وأهبط معه في اتجاه آثار قرطاج التاريخية.. المطلة على البحر المتوسط. كنت لاحظت – خلال إقامتي في تونس – غزارة أمطارها الشتوية وتفهَّمت تعدُّد الأرصفة.. المحتضنة قنوات تصريف للمياه المتجمِّعة من الأمطار. لاحظت وتأملت. كنت أسمع عن ظاهرة الأرصفة، وطرائق مدِّها وهندستها مع قنواتها.. من أصدقاء يسكنون شمال العراق، ويتعايشون مع آثار حضارات ما بين النهرين والإغريق والرومان.
ثم تذكّرت سنوات قضيتها في روما. كنت أتسلل للقيام برحلات استكشاف.. في أنحاء شتى من روما القديمة، وبخاصة الطرق التي حافظت على كثير من إبداعات مهندسيها؛ حتى قيل إن الطرق الكبرى عبر جبال الألب والمواقع الحربية – وما زالت صالحة للاستعمال – كانت من صنع عباقرة مهندسي الرومان، وهي – حتى يومنا هذا – شهادة على مدى التقدم الذي أنجزته هذه الحضارة. كنت هناك، ولم أتجاوز السادسة والعشرين.. أهوى ما يهواه الشباب في مثل عمري، وأحلم بما كانوا يحلمون، وإن اختلفت الأحلام عن بعضها كثيراً أو قليلاً.. بحكم ما رأيت وقابلت وعاشرت وقرأت والتزمت.
***
كثيراً ما غبت ساعات.. أقف، أو أمشي منبهراً.. بهندسة وجماليات ترصيف طرق روما القديمة؛ وبخاصة تلك المتوجهة شمالاً في اتجاه أوروبا. هناك من دلني على طرق.. أرصفتها منحوتة بين الصخور، ومزدانة بالحصى المتعدد الألوان. الزينة نفسها.. التي كثيراً ما دفعتني للإلحاح على أهلي أو «شلَّتي»، لتنظيم رحلة لحديقة الحيوان في الجيزة. هناك، وفور عبور بوابة الدخول، أركض مع الطرق.. المؤدية إلى حديقة الشاي، والمحيطة بها.. لأجلس بالساعات على مقعد حجري؛ منبهراً بالأرصفة المبهجة.. بألوان الحصى ودقة رسوماتها وجمالها. هناك في روما القديمة، عرفت الأصل والمصدر معاً. هناك تجدّد مخزون ذكريات طفولتي.. في حديقة حيوانات الجيزة.
***
إن نسيت فضل هذا الجمال، ودقة الاصطفاف، وروعة التنسيق، فلن أنسى زياراتي الأولى والثانية والثالثة.. لمدينة دلهي القديمة. الرحلة للهند؛ عابراً كنت أم مبعوثاً مستقراً ومقيماً.. في شقيقتها، العاصمة نيودلهي. لا تكتمل إلا بزيارة – ولو عاجلة – للمدينة.. الفريدة في استخداماتها لأرصفتها. هناك، وعلى رصيف مقابل لمطعم.. يشوي قطع الدجاج «المبيتة» في الفلفل الأحمر، في بئر عميقة بسطح متحرك، لمحت في نظرة واحدة سريعة.. حلاقاً على الرصيف، يحلق شعر رجل مقيم في حجره، وطبيب أسنان.. يخلع ضرس مريض، لا يصرخ. أدواته بسيطة، لا تزيد عن خيط قوي؛ أحد طرفيه مربوط بحنكة مع الأصبع الأكبر للقدم اليمنى للطبيب، والطرف الآخر مركَّب بكل متانة ممكنة في ضرس لمريض.. يشكو ألماً فيه، وقد اقتنع المريض بأن الحل يأتي مع خلع الضرس اللعين.
خلال الزيارة الأولى لدلهي – وكما في الثانية – لم يفتني أن أقف حيث كنت على الرصيف.. لدقيقة لا أكثر، أمام رجل رث الملبس والهيئة – يصنع بكل الحب الممكن – عجائن يحشوها بقليل من خلطة خضرة مطبوخة، مع خلاصات الشطة الحمراء، ثم يلقى بها في زيت.. يستقبل بالصوت العالي الفطائر.. كلاً على حدة. ونحن في النهاية زبائن، في انتظار لهفة استلام.. ثم التهام «فطيرة»، ما تزال قطرات الزيت العالقة بها تحتفظ بلحن الغليان، تعيده على مسامعنا حتى فى لحظة الالتهام.
كما في السياسة، لا يحلو – أو يكتمل – الحديث عن الهند، إلا ويتلوه حديث عن الصين، لكن ما باليد حيلة، فقواعد إخراج الصفحة تحثنى على التوقف هنا.
نقلاً عن «الشروق»